إصلاح العمل السياسي وتخليقه أولا

يستجدينا، والأصح أنه يستجدي البعض منا؛ يقول لهم ما يحبون أن يسمعوه من كذب مغلف بوعود خلال مأدبة تُنظم كل خمس سنوات، وعند كل مناسبة انتخابية. لعن الله الفقر، هكذا ردد الكثير ممن باعوا أصواتهم لتاجر الانتخابات في حضور، وفي غياب للسلطات الترابية التي حباها الله بمعرفة كل شيء يدين مجرمي إفساد العمليات الانتخابية. توجد كثير من حالات الاستثناء التي تؤكد، عبر تقارير، فساد عملية انتخابية، تطلبت تدخلات قضائية مبررة وبكثير من الصور التي ضمتها شهادات حزب، أو جمعية حقوقية، أو مجرد مواطن. الرشوة الانتخابية حقيقة وواقع، وهذا يحصل منذ عقود. ولكن المشكل الكبير يكمن في ضعف الحصول على وسائل الإثبات. وهنا وقف حمار الشيخ في العقبة. أجبرني أحد رجال الأمن سنة 1984 على مغادرة موقعي كممثل للمناضلة لطيفة الجبابدي في لجان الفرز، وقال لي أن أختار بين المغادرة وبين الاعتقال بسبب عرقلة العملية الانتخابية، وكنت آنذاك في سنوات عملي الأولى في المفتشية العامة للمالية. وأصر جميع المناضلين على عدم مواجهة رجال الأمن آنذاك، والذين “لا يطبقون إلا التعليمات”.
أكد جميع ممثلي الأحزاب التي سمح المخزن بحضورها في لجان الفرز أن ممثلة منظمة العمل الديمقراطي والشعبي هي التي فازت في مقاطعة التقدم واليوسفية. ولكن المخزن الترابي في أيام إدريس البصري كان له رأي آخر. كانت الانتخابات توصف بالديمقراطية، وكانت الخارطة تُصنع حسب رغبة المخزن في مكاتب وزارة الداخلية. لا تزال الذكريات المؤثقة تبين زيف صنع الأغلبيات، بما فيها تزوير نتائج القائد المناضل عبد الرحيم بو عبيد في أكادير.
وعمل المخزن على تشويه العمل السياسي في بلادنا منذ بداية الاستقلال. تم اتخاذ القرار بكتابة دستور تم رفضه من طرف الحركة الوطنية، وتمت تعبئة أقلية تحولت بفعل فاعل إلى أغلبية أخذت اسم “جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية”. وسرعان ما ضعفت هذه اللجنة أمام قوة المعارضة. وأعلن الملك الراحل الحسن الثاني حالة الاستثناء سنة 1965 حين شعر بضعف حضور من ظن أنهم قادرون على مواجهة أحزاب الحركة الوطنية. تم اغتيال بن بركة في نفس السنة، واستمر الصراع بين الأشقاء الأعداء إلى غاية 1972. ويتعلق الأمر هنا بتأكد الملك من أعدائه الحقيقيين بعد أحداث الصخيرات، ومحاولة إسقاط الطائرة الملكية سنة 1972. وكان للقدر فعل ضد المؤامرات.
وأظن أن اليوم السياسي الذي نعيشه يحتاج إلى كثير من التحليل واليقظة. لم نشهد أبدًا أن أقطابًا حكومية تتهمها المعارضة بتضارب المصالح بهذا الزخم. لم نشهد أن تقوم الحكومة بالسكوت عن استعمال المليارات من أموال الشعب دون محاسبة: 13 مليار لاستيراد اللحوم دون أثر على الأسعار، و17 مليار درهم كهامش أرباح في غياب منافسة على تسويق المواد البترولية، و115 مليار كصفقات، يقول عنها حزب العدالة والتنمية إنها تمت باستغلال المواقع والاستفادة من علم مسبق بمعلومات عن مكونات مشروع، وعن ما كان سيتخذ من قرارات جبائية تهم قانون الاستثمار لزيادة أرباح رقم معاملات، وأرباح شركات رئيس الحكومة.
صرخ رئيس الحكومة بأعلى صوته أنه لن يرضخ لأحد مهما تكاثرت شبكة المهاجمين له، وزادت ثروات الكثير من قيادات مكونات الحكومة وحتى بعض المعارضين. وأصبح من المؤكد أن أصحاب المال دخلوا بقوة في حملة انتخابية قبل الأوان. هل ستظل الدولة على خط عدم الانحياز إلى أجل غير مسمى؟ أقسم وزير العدل، عبد اللطيف وهبي، على أن يحرم المجتمع المدني من رفع كل شكاية لوكيل الملك في شأن كل القضايا التي تهم الارتشاء، وكل القضايا المتعلقة بالفساد الصحي والتعليمي. قد تُقفل كل الأبواب أمام المواطنين. ولكن الخروج إلى الشارع سيعبر، بكل الأطياف القوية وذات المصداقية، عن رفض الفساد. خيارنا الوحيد هو دولة الحق والقانون، والباقي في علم خالق الأكوان: “إنما أمره إذا أراد شيئًا، أن يقول له كن فيكون… فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون”.
ولكن الأمل في مستقبل كبير لمغرب صاعد، ويوجد مفتاح دخول المغرب إلى مرحلة جديدة في قوة وقدرة استماع الدولة لكل من يساهم في نقد الممارسات السياسية وتدبير الاقتصاد، سواء كان شابًا أو كهلاً أو تجاوز الستين. ويعد موضوع إعادة النظر في قانون الأحزاب، ومحاسبة المفسدين بالقانون وفضح ممارساتهم عبر تتبع تضخم ثرواتهم مجهولة المصدر، أول خطوة. كما يجب الإسراع في إصلاح القوانين التنظيمية لكل المؤسسات المنتخبة. لقد أجمعت الأحزاب في السابق على حذف الشروط التي تهم المستوى التعليمي للترشح، وظهر من خلال تدبير الكثير من المجالس أن غياب الكفاءة والمستوى التعليمي يعرقل تقدم تنزيل السياسات العمومية.
ويجب التذكير أن العمل البرلماني يتطلب كفاءات عليا في مجال التشريع، وفي مجال مراقبة العمل الحكومي. ويمكن أن أؤكد أن نقاش مشروع قانون المالية لا يفهمه إلا فئة من البرلمانيين لا تتجاوز نسبتها 5%. وقد أكد ملك البلاد على ضعف مردودية الاستثمارات العمومية، ووجه في كثير من خطبه لكي تتحسن دراسة وبرمجة المشاريع، وخصوصًا في المجال الاجتماعي. إن بلادنا تحتاج إلى هزة نفسية وإصلاحية تدفع بالشباب إلى المشاركة السياسية. أغلب الشباب في مسؤوليات المجالس الترابية، في البرلمان، يدخلون ضمن شبكات توريث المناصب، وهكذا استبطن الكثير من المواطنين أن الابتعاد عن المشاركة السياسية شيء عادي جدًا. لا ينتظر الشباب سوى إشارات لتفعيل ربط المسؤولية بالمحاسبة لكي يتجدد أملهم في مؤسسات بلادهم. نعرف أن مرتكبي اغتيال أحلام الشباب لهم حضور قوي في الميدان وفي المخيال الجماعي، ولكن قدرة الدولة على كبح جماحهم أكبر من كل قدراتهم السلبية.
لم تنجح كل عمليات انتقاء بعض أهل “اليسار” سابقًا لصنع ثقافة سياسية جديدة، عبر تسكينهم في مهام عليا تمتد من هيئات الحكامة إلى مؤسسات عمومية، مرورًا بمهام دبلوماسية. أغلبهم عاد إلى بيته وهو يحاول اجترار ذكريات عن نضال انتهى، وكلهم ذاقوا، كل حسب تجربته، فوائد كرسي المسؤولية. لن يضعف الوطن، الذي يشهد أوراشًا كثيرة، إذا فتح بعزم وإرادة إصلاح الممارسة السياسية.
اترك تعليقاً