يمثل إنشاء المنظمة الدولية للوساطة ابتكارا هاما في نظام الحوكمة العالمية. وبوصفها أول منظمة قانونية حكومية دولية مكرسة لحل المنازعات الدولية عن طريق الوساطة، فإن هذه المنظمة لا تسد الثغرات في النظام الدولي الحالي لتسوية المنازعات فحسب، بل توفر أيضا منبرا جديدا للبلدان النامية للمشاركة في الحوكمة العالمية.
أولا. فرص جديدة للتغيير في نظام الحوكمة العالمية
تواجه الآليات الدولية المعاصرة لتسوية المنازعات تحديات خطيرة. فالنظام الحالي، المتمثل في محكمة العدل الدولية والمركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار، يتعرض بشكل متزايد في الممارسة العملية لمشاكل الإجراءات المطولة والمكلفة والميول المتمركزة حول الغرب. فمن عام 1966 إلى عام 2022، كان %66 من المحكمين أو الوسطاء في القضايا المسجلة من أوروبا الغربية وأمريكا الشممنظمة. وقد أدى هذا الخلل الهيكلي إلى استمرار سلبية البلدان النامية في نظام سيادة القانون الدولي.
في هذا السياق، بادرت الصين، إلى جانب عدد من الدول النامية، بتأسيس المنظمة الدولية للوساطة في عام 2022، والذي جذب حتى الآن 33 دولة عضو منظمة، تشكل الدول العربية %12 منها. تتمتع هذه المنظمة المبتكرة بقيمة اختراق ثلاثية: أولاً، كأول منظمة حكومية متخصصة في الوساطة، يملأ فراغًا مؤسسيًا في مجال الوساطة الدولية؛ ثانيًا، متميزًا عن نموذج التقاضي القائم على “التحكيم بعد وقوع النزاع”، تؤكد المنظمة على التدخل في المرحلة المبكرة من النزاعات وتتجنب تصعيد الصراعات من خلال التفاوض المرن؛ وثالثًا، يؤسس منظمة عادلة لتقاسم التكاليف (نظام المساواة الافتراضي)، مما يخفض بشكل كبير عتبة المشاركة. تأتي هذه المنظمة في وقت مناسب للعالم العربي، الذي يعاني من صراعات إقليمية ونزاعات استثمارية.
ثانيا. حوار الحضارات: صدى القيم عبر التقاليد القانونية
يعكس التصميم المؤسسي للمنظمة الدولية للوساطة التقدير العميق المتبادل بين الحضارات. فمفهوم “الانسجام” في الحضارة الصينية وحكمة “التشاور” في الحضارة الإسلامية يشكلان معا الحمض النووي الثقافي للمنظمة الدولية للوساطة. وتدعو الكونفوشيوسية إلى “الوئام” و”الحفاظ على الانسجام بين الاختلاف”، وتؤكد على الحوار بدلاً من المواجهة لتسوية النزاعات، وهو ما يلقى صدى عبر الزمان والمكان من خلال تقليد الشورى في الحضارة الإسلامية. ينعكس هذا الرنين العابر للحضارات في تصميم النظام بطريقتين محددتين. أولاً، عملية غير تنافسية: بدلاً من الهيكل التنافسي “المدعي – المدعى عليه”، تستخدم المنظمة الدولية للوساطة وسيطاً محايداً كجسر لتوجيه الأطراف المتنازعة لإيجاد حل. ثانيًا، القواعد الحساسة ثقافيًا: تسمح الاتفاقية بتطبيق القانون العرفي أو الديني (مثل روح العقد في الشريعة الإسلامية) الذي يعترف به الأطراف المتنازعة بشكل شائع، وهو ما يتوافق إلى حد كبير مع تأكيد الدول العربية على “توطين القانون”. وقد أشار الباحث المصري إلى أن ظهور المنظمة الدولية للوساطة ” أنقذ العالم العربي من الاضطرار إلى سرد قصته الخاصة ب” لغة العدالة الغربية”.
إن أهمية هذا التلاقح الحضاري تتجاوز المنظمة نفسها: فهو يثبت أن حكمة الحوكمة لدى مختلف الحضارات يمكن أن تتكامل من خلال الابتكار المؤسسي، مما يوفر “عينة شرقية” لإضفاء الطابع الديمقراطي على الحوكمة العالمية. وكما قال وزير الخارجية الصيني وانغ يي، فإن المنظمة الدولية للوساطة “ليست فقط طفرة في المنظمة القانونية، بل هي أيضًا انتصار في حوار الحضارات”.
يكون إنشاء المنظمة الدولية للوساطة إيذاناً بصحوة جماعية للبلدان النامية في مجال سيادة القانون الدولي. فمعظم الأعضاء المؤسسين الـ 33 الأوائل هم من آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وتشارك الدول العربية مثل مصر والسودان وجيبوتي بعمق في وضع القواعد، مما يكسر نمط المؤسسات القضائية الدولية التقليدية. يجلب هذا التصميم المؤسسي “الذي يقوده الجنوب العالمي” ثلاث قيم استراتيجية للدول العربية: أولاً، إضفاء الطابع الديمقراطي على هيكل المشاركة. فمن خلال اعتماد نظام “دولة واحدة وصوت واحد”، تكسر المنظمة الممارسة التقليدية المتمثلة في ترجيح حقوق التصويت في المنظمات الدولية. وقد مكّن هذا التصميم الدول العربية من المشاركة على قدم المساواة في وضع القواعد، كما يتضح من نجاح مصر في الترويج لإدراج “الخصوصيات الثقافية” في المادة 7 خلال المفاوضات حول الاتفاقية. ثانيًا، تتسم المنظمة الإجرائية بالمرونة. فقد تم اعتماد نظام “التوفيق-التحكيم” ذي المسارين: في حالة فشل التوفيق (فترة تتراوح بين ستة وتسعة أشهر في المتوسط)، يمكن للأطراف الانتقال بسلاسة إلى التحكيم، ولكن يجب على هيئة التحكيم أن تأخذ في الاعتبار التوافق الذي تم التوصل إليه خلال مرحلة الوساطة. وقد صُممت هذه الواجهة لضمان الكفاءة مع احترام نتيجة الوساطة. ثالثًا، القواعد الموضوعية شاملة. وتنص المادة 15 من الاتفاقية بشكل مبتكر على أنه في المنازعات التي تنطوي على التمويل الإسلامي، يجب على الوسطاء الرجوع إلى معايير مجلس الخدمات الممنظمة الإسلامية والقوانين المحلية للأطراف. ويوفر هذا النموذج للاعتراف بمصادر القانون المتعددة وسيلة أكثر ملاءمة لتسوية المنازعات للمشاريع العابرة للحدود في إطار رؤية السعودية 2030.
وعلى الرغم من مستقبلها الواعد، إلا أن المنظمة الدولية للوساطة لا تزال تواجه اختبارات: أولاً، قد يؤثر موقف الولايات المتحدة وأوروبا ودول أخرى في سلطة المنظمة التي تحتاج إلى تعزيزها من خلال إشراك المزيد من الدول المحايدة؛ ثانياً، يعتمد تنفيذ نتائج الوساطة عبر الحدود على التعاون القضائي بين الدول. وكما قال ابن خلدون في مقدمة تاريخه “التشاور هو أساس الاستقرار”، وسيتوقف نجاح هذه المنظمة على ما إذا كانت جميع الأطراف قادرة على تجاوز عقلية المحصلة الصفرية وتحقيق النموذج الجديد المتمثل في ” مبادئ التشاور والتشارك والتنافع” في الحوكمة العالمية.
على المدى الطويل، تتجاوز قيمة المنظمة الدولية للوساطة وظيفتها المحددة في تسوية المنازعات. فهي تمثل انتقال الحوكمة العالمية من “المركزية الغربية” إلى “الحكم التعددي المشترك للحضارات”. عندما يتردد صدى حكمة “الشورى” العربية ومفهوم “الانسجام” الصيني على المسرح الدولي لحكم القانون، فإن ما يجلبه ذلك ليس فقط منظمة جديدة، بل أيضاً نموذج جديد للحكم العالمي يستبدل المواجهة بالتشاور والإقصاء بالإدماج. وبالنسبة للعالم العربي، فإن هذه ليست فقط “فرصة حضارية” لإعادة تشكيل صورته الدولية، بل هي أيضًا نقطة انطلاق استراتيجية نحو “نهضة سلمية وتنموية”. وكما قال وزير الخارجية المصري السابق عمرو: “إن المنظمة الدولية للوساطة ليست نقطة نهاية المطاف، بل نقطة انطلاق للوساطة العربية والصينية لكتابة فصل جديد من الحوكمة العالمية معًا”. في هذا العصر الذي يشهد صراعات وانقسامات متكررة، قد توفر هذه الممارسة المزدوجة للحوار الحضاري والابتكار المؤسسي الحل النهائي للبشرية للخروج من “معضلة الأمن” و”العجز التنموي”.
إن ميلاد المنظمة الدولية للوساطة هو نتاج حتمي للتشابك بين انحسار مد العولمة وموجة تعدد الأقطاب. فهي تستعين بحكمة الشرق لحل معضلة الحكم في الشرق لحل معضلة المركزية الغربية وإعادة بناء النظام الدولي لسيادة القانون بفضل الحكمة الجماعية للبلدان النامية. وبالنسبة للدول العربية، فإن المشاركة في هذه المنظمة ليست فقط حماية لمصالحها الخاصة، بل هي أيضا نشر عالمي لقيم الحضارة الإسلامية المتمثلة في “التشاور والفوز المشترك”.
باحثة مساعدة في قسم دراسات الشرق الأوسط لمعهد الدراسات الإقليمية والدولية بجامعة صن يات سان