وجهة نظر

أحمد الفراك يكتب: بين عبد الله العروي وعبد السلام ياسين

مقدمة

ما كان للمؤرخ والروائي والمثقف المغربي الكبير عبد الله العروي أن يتجاهل الحديث عن مفكر إسلامي كبير من حجم الإمام عبد السلام ياسين (ت2012م)، ليس فقط بوصفه مؤسسا لأكبر تنظيم إسلامي في المغرب، وإنما بوصفه رمزا إسلاميا لا يمكن تجاوزه، وبوصفه أكبر معارض للنظامٍ السياسيٍّ المغربي الذي قيل عنه أنه يُذيب المعارضين ويُعيد صناعة من بقي حيا منهم على طريقته. وفي مقابل ذلك لا يمكن للأستاذ ياسين أن يضرب صفحا عن كتابات العروي التي كانت نخبة معتبرة من المثقفين تحتفي بإصدارها وتوزيعها، وخاصة من شباب اليسار، إذ اطلع على كتاباته وتفاعل معها وانتقد أطروحتها في غير ما موضع من مؤلفاته. مما يفيد بأنه جرى بينهما حوار من نوع ما.

فكيف نظر كل منها لصاحبه؟ وما هي أهم الانتقادات التي وجهها كل واحد منهما للآخر؟

 

أولا: العروي: ياسين قائد إسلامي

في “ذكريات الصباح” وصف الدكتور العروي الأستاذَ عبد السلام ياسين بـ”القائد الإسلامي”[1]، اعترافاً بزعامة الرجل وكاريزميته وسط تنامي قوة الحركة الإسلامية وتغلغلها في المجتمع، بل في العلم الإسلامي والعربي، مقابل تراجع قوة الحركة الاشتراكية وتقلُّص انتشارها، ولوماً لليسار على نخبويته وضمور البعد العملي في مشاريعه السياسية، إذ المغاربة في نظره ليسوا في حاجة إلى الخُطب من أجل تربيتهم سياسياً، “لأن الخُطب أبعدت الناس، والشباب خاصة، عن الأحزاب وعن السياسة. هم الآن في حاجة إلى قائد”[2].

القائد الذي يؤمُّ الناس وهو واحد منهم يعطي المثال بأخلاقه وعمله، ويبرز من بين الجموع بنموذجيته ووفائه لمبادئه وتحمّل تبعات الكلمة الصادقة الصادعة المسؤولة، بينما يهرول الأدعياء كلما سمعوا صفيرا ويتكادمون كلما ألقوا لهم رغيفا.

تحتاج الجماهير قائدا –بتعبير العروي- يقودها، لكن، لم يقل لنا السيد العروي كيف يُصنع القائد؟ فهل يُفرض بالسيف؟ وهل يأتي من خارج الصف ونظام الصف وأخلاق الصف؟ أم ينبثق تلقائيا من رحم الشَّعب ومعاناته؟ وهل يتصف هذا القائد بالضرورة بتلك المواصفات التي تسكن أحلام النّخبة المثقفة في العاصمة أم يمكن أن يزحف من الهامش؟ أو يخرج من السّجن؟ أو يصعد من الجنوب؟ أو ينبجس بين صخور الواقع هدية من السماء؟

المهم عند العروي هو أن ياسين حاز صفة “القيادة الإسلامية” بامتياز، ولذلك أشار إليه من وراء السطور في كثير من كتبه، حيث نشعر به يستحضره كلما تعلق حديثه بموضوعات المثقفين والمعارضة السياسية والإسلام السياسي وإمارة المؤمنين بل والحركة الوطنية والحركة الإسلامية ومستقبل الإسلام… وهو يعرض بين الفينة والأخرى بمواقفه وامتداداتها في المجتمع والثقافة، والتي أصبحت بها الدعاية الإسلامية “جمهورية في العمق”، من حيث لم تفلح الدعايات الحزبية سوى في إتمام طقوس الاستسلام للمخزن. أما الإسلاميون بطبيعتهم فهم معارضون إذا لم تسمع لهم الدولة، وإذا سمعت لهم تحولوا إلى أوفياء[3]. في إشارة منه إلى نمطين من الإسلاميين الحركيين في المغرب؛ معارضون للسلطة مضطهدون وفي المقابل أوفياء للسلطة موالون.

وحضور اسم عبد السلام ياسين بالصفة فقط لم يلغِ ذكره بالاسم غير ما مرة، منها ما أورده عنه في “خواطر الصباح” التي كان ينتقي فيها أحداثا وأخبارا جزئية، ويدونها ويعلِّق عليها تعليقا خفيفا، وخاصة ما يتعلق بمناسبتين بارزتين في مسيرة الأستاذ عبد السلام ياسين:

 

أولا: بمناسبة رسالة “الإسلام أو الطوفان”

تحدث العروي عن ياسين في البداية بوصفه أحد الرموز الثقافية الكبيرة (أطر وزارة التربية وكلية الآداب) التي انخرطت في الطريقة البوتشيشية الموالية للاستعمار في نظره، ثم بوصفه مؤلفا لكتاب لم يقرأه! حيث قال: “أحد الموظفين السابقين يدعى عبد السلام ياسين الذي ألَّف، فيما قيل، كتابا يدعو فيه إلى إقامة نظام إسلامي ويتمنى أن يكون رابع الشهداء، بعد محمد الكتاني وحسن البنا وعبد القادر عودة حتى يكون خصمه ومخاطبه رابع الجبابرة (عبد الحفيظ وفاروق وعبد الناصر) الذين أخذوا على حين غرة”[4].

“فيما قيل” عبارة تفيد في نظري أن عبد الله العروي قرأ رسالة “الإسلام أو الطوفان” لكنه خاف أن يلام على تسلُّمها وقراءتها، وكيف لا يقرؤها وقد قرأها كبار أهل العلم والفكر والسياسة والدعوة؟ وهو السياسي والمفكر والمؤرخ؟ وكيف لا يقرؤها وهو يُظهر اهتمامه بها وبتفاصيلها لما ذكر أن صاحبها يدعو إلى إقامة نظام إسلامي، وأنه مستعد لتحمُّل موقف السلطة الذي قد يصل إلى القتل أو التذويب أو الإخفاء القصري.

لم يخطر ببال العروي على ما يبدو، ولم يتوقع يوما أن ينبعث مثقفٌ مغربي وإسلامي ويكتب للملك بتلك القوة وذلك الأسلوب وفي ذلك الوقت. فلا هو يتملق إلى الحاكم ليقربه كما يفعل “الوصوليون”، ولا هو يتملق إلى الشعب ليحمي ظهره كما يفعل “الشعبويون”. وإنما يتعلق الأمر برجُل تربية وتعليم مسالم ألقى “قنبلة سياسية” من فناء الزاوية إلى وسط القصر. والثقافة الطرقية في نظر العروي تتسم بالضحالة والماضوية وقصر النظر، فكيف تكون ملاذا لأمثال هذا الجريء؟ وهل نطق الرجل بهذه الجرأة من تلقاء ذاته؟ بلا حزب؟ ولا نقابة؟ ولا جماعة؟ بمفرده، لا داخل ولا خارج؟

جواب العروي بعد أن فكر وقدر وعبس وبصر: “لا أستبعد أن تكون يد أجنبية، إسلامية أو لا، وراء كل هذا”[5]، قبل أن يعبر عن تخوفه من توسع الزاوية، وانضمام أطر أكاديمية[6] مثقفة من تخصصات مختلفة (منها الفلسفة) إليها، وكان لا يزال يظن أن ياسين آنذاك أحد أطرها، بقوله: “المهم هو أن هذه التطورات تدل على تقهقر فكري مخيف.”[7]

في اللحظة التي كتب فيها ياسين رسالته في نقد النظام واعتُقل وأُودع مستشفى المجانين، لأنه عارض الملك، وفي اللحظة التي كانت الإعدامات في صفوف المعارضة على أشُدها بين القنيطرة والرباط، لم يبد العروي وهو يكتب خواطره الصباحية، أي تعاطف يستحق الذكر مع المظلومين وأي تنديد بقتل المعارضين، إلا من إشارات قليلة عابرة تزيد من اتهام المعارضين وتلقي باللائمة عليهم، مِن قبيل أنه “لا يهتم بهم أحد من الشعب”، أو لأنهم “يريدون استغلال الظرف الخارجي لتدجين الرأي العام وإسكات طبقة المثقفين”[8]!

في الحقيقة، المثقف المناضل هو من يشارك في مواجهة الشر، ولو لوحده. ويعلن تعاطفه مع المظلوم بغض النظر عن انتمائه وإديولوجيته وعرقه ولونه، فسارتر وراسل وغرامشي وريجس ديبريه وغيرهم كثير فلاسفة ومناضلون في الشارع، ومتعاطفون مع الحركات المضطهدة والشعوب المستضعفة في العالم، وبعض المثقفين يا للأسف! يعتكفون في خيمة السلطان ويركبون بغلته، ويحلو لهم النقد من شُرفة الفرجة على بهلوانات السرك، قبل أن يدعو إلى القطيعة وممارسة الترجمة والتأويل في كرسي ممنوح من علٍ.

يعي الأستاذ العروي جيدا ازدواجية النظام في جمعه بين التقليدانية ودعوى التحديث، لكن يغيظه أن يتحدث مفكر خِريج علم الاجتماع في محاضرته عن أيهما الذبيح في أبناء النبي إبراهيم عليه السلام: إسحاق أم إسماعيل! أو أن ينظم حزب الاستقلال حفلا بمناسبة الهجرة النبوية! أو أن تذيع إذاعة فلسطين من دمشق برنامجا عن مكة! أو أن يستعمل دعاة الإسلام وسائل المواصلات الحديثة! أو تعقد مؤتمرات إسلامية! أو ينتقد علال الفاسي الزواج المختلط! أو أن ترتدي طالبة الحجاب في الجامعة!

وكل ما يمت إلى الأصالة بصلة فهو عائق وليس مزية!

رغم أن العروي يكره المثقف الذي يتملق إلى الشعب فقد ترشح باسم حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بالدار البيضاء في انتخابات برلمانية يعلم مسبقا أنها بلا جدوى، وقَبِل بشروط اللعبة الظاهرة والخفية، ومنها خروجه أو قلْ نزوله في حملة شعبية يتقدمها وقودُ الأحزاب من الشباب المتحمسين والقادرين حقا على التواصل مع الفئات الاجتماعية التي يعايشونها، “ولم يتأخر المرشح عبد الله العروي في الانسحاب والاعتذار، عندما رفع الشباب المرافق له في الحملة شعارا حول المعتقلين السياسيين المختطفين: “هوما فين.. هوما فين.. أولاد الشعب المخطوفين..”. كان يرغب في “حملة انتخابية سلمية” من غير تصادم ولو لفظي”[9].

كان العروي بنباهته يعرف أن السياسة في المغرب بلا مبادئ، وكان يحرص على عدم إزعاج السلطة قيد أنملة، لأنه يعتاش منها[10]. كما كان يعيش عقد إرضاء الأجانب. هكذا كان وهكذا بقي. يُنظِّر للقطيعة في الفضاء ويمارس التقليد في الواقع، فأثناء حملته الانتخابية التقدمية “قام بطبع “بْزاطَم” لإهدائها للمواطنين، حافظات أوراق من الحجم الصغير طبع عليها اسمه كمرشح للاتحاد، مع الرمز الذي كان عبارة عن دائرة كتب عليها (تحرير، ديمقراطية، اشتراكية)”[11]، ورغم ذلك فشل وعاد خاوي الوفاض، لم يفُز في الانتخابات، فاعتزلها والتحق بمن يُهندسها من فوق الفوق. وتلك أزمة المثقفين العرب حقيقة حينما أخلفوا موعدهم مع التاريخ وأخلوا ضمائرهم من التوبيخ.

 

ثانيا: بمناسبة إصدار “مذكرة إلى من يهمه الأمر”

قال العروي في الجزء الرابع من خواطره الصباحية، معلقا على “مذكرة إلى من يهمه الأمر” ومضمونها:

“الكلام على رسالة منشورة في الأنترنيت بثلاث لغات حررها قائد إسلامي ووجَّهها إلى من يهمه الأمر.

كيف يصح الكلام على الإسلام عامة والعالم الإسلامي، كما نراه، في غاية التمزق والتباين؟ من عدم المسؤولية أن يفوه المرء بحكم وهو يعلم أن المغرضين سيطبقونه على مجموع المسلمين. غرض صاحب الرسالة أن يتكلم على المغرب؟ ليفعل ويعرض عن الإسلام.

يتكلم على الإسلام لأنه يمثل الوسيلة الوحيدة التي تمكنه من مخاطبة صاحب الأمر مباشرة خارج القنوات الدستورية. كما لو قال: الدستور لا يجدي. أنا أخاطب أمير المؤمنين، ولكي يتأتى لي ذلك، لابد من أن أعتمد مرجعية إسلامية.

الموقف الصحيح هو إذن أن تعتبر الرسالة إجراء فردياً، لا تهم الحكومة أو الأحزاب أو المثقفين. إلا أن الجميع يتحاشون ذلك حتى لا يقال إنهم يدفعون الملك إلى الواجهة، في حين أنه يحتاج إلى ستر وحماية.

يجب معارضة المبدأ لا مناقشة التفاصيل.”[12]

فالعروي -إن كان قرأ الرسالة حقا أم حاكمها بصورة في ذهنه عن عنوان رسالة الإسلام أو الطوفان- لا يقبل أن يلتقي الحديث عن الإسلام مع الحديث عن المغرب، إما المغرب أو الإسلام! رغم أن صاحب الرسالة كان ملتزما بالحديث عن المغرب وعن نظام الحكم وعن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية معززا حديثه بإحصائيات دقيقة تنذر بالإفلاس، ومذكرا بالأسئلة المحرجة، والقضايا الملحة، والحقائق المرة، والحدائق الشيطانية، والقطيعة المرجوة، وهو من أولها إلى آخرها يخاطب الملك بوصفه رئيس الدولة الذي يُهمه أمر الأمة كله، وبيده القرار كله. ولم تتضمن الرسالة لا آيات قرآنية ولا أحاديث نبوية تزعج العروي كعادته.

وجميع التفاصيل التي وردت في المذكرة يتفق فيها غالبا العروي مع ياسين. لذلك تراه يهرِّب النقاش إلى المبادئ من أجل تعويمه كعادة أهل السفسطة في حواراتهم ومناظراتهم.

أعرض العروي عن التفاصيل المتفق عليها، كي لا يتفق مع ياسين من جهة، وهو الذي لا يتفق مع أحد. ولكي لا يجحد ما صحَّ فيها من معلومات من جهة ثانية. ولهذا ختم قوله بـ”يجب معارضة المبدإ لا مناقشة التفاصيل”. وقد يكون المبدأ هو اكتفاء الإسلاميين بهامش الهامش، أي “أن ينكفئ الإسلاميون من ميادين الفكر المتفاعل في ميدان الصراع الثقافي إلى منظومات أفكار مبرمجة متوقفة عن النمو. ذلك الانكفاء الفكري يضمن استمرار الحركة الإسلامية في هامشية الحركية السرية”[13]، أي إبعاد الإسلاميين عن السياسة لتغطية الإسلام، وإبقاء ما كان على ما كان.

وهل يريد العروي من عبد السلام ياسين أن يخفي مرجعيته الإسلامية في نصيحته للملك وتقويمه لسياسة والده؟ أو أن يفوته –وهو العارف- أن السلطة الحقيقية في المغرب هي للملك، وليست لغيره؟

أظن أن العروي يعرف ذلك جيدا، ويعرف أن أغلب الكائنات والكيانات السياسية المغربية عارية فاقدة للون والطعم والفائدة، لكنه في الوقت نفسه يريد لياسين ألا يتخطى الحكومة والأحزاب والمثقفين! لأنها تؤدي وظيفة تمويهية ما دامت تظهر في الواجهة لستر الملك وحمايته!

العروي بوصفه مثقفا مسكونا بالأنانية الـمُغرَّبة المستعلية، التي تؤديها شعارات “الماركسية الموضوعية” في كتاباته الأولى، وشعارات “الحداثة والتحديث” فيما بعد، والذي ظل وفيا فيها لمبدأ “لا لحاق إلا بالإلحاق” بالتقليد للنموذج الليبرالي الغربي[14]، يستعصي عليه أن يؤدي وظيفة المثقف الثقيل الذي يقول الحقيقة للسلطة[15]، ويتحلى بالحد الأدنى من الموضوعية. لذلك فهو لا يرى في داعٍ إلى الأصالة وإلى الإسلام وإن كان من “العلماء العارفين” -بحسب تعبيره- إلا متحدثا عن مرجعية توقفت مع محمد عبده، ومعبرا عن أدلوجة متجاوزة تاريخانيا، ومتعارضة مع دعوته في أن يكون “ماركس معلما ومرشدا نحو العلم والثقافة”[16] في الوطن العربي، وكم كان متحمسا لذلك بشكل جعل الأستاذ إدريس الكتاني ينعته بـ”لينين المغرب” بعدما سمع لمحاضرة له في الثمانينيات.

إذن، في تعليقه يظهر مشكله في “لاموضوعيته”، وفي تحيزه لمحراب ثقافي شبه رسمي عاش مستقبِلا قبلته لم يبرحها، وليس مع عبد السلام ياسين الشخص الذي لا تُقنعه تاريخانية مقطوعة لا ترقى أدلوجتها لاستيعاب الإنسان كما هو في أصالته، ولا تستهويه “دار المخزن” التي تستقطب الانتهازيين والانتظاريين معا مادامت إديولوجياتهم تحمل خاصية التبرير في أحشائها. و”كل ثقافة لا ترتفع إلى مستوى الإنسان، الإنسان على وجه الشمول، إنما هي هراء وعبث”[17] كما يقول محمد عزيز الحبابي.

أما الأستاذ ياسين فأظنه كان قارئا حصيفا لكتابات العروي، ولعلَّه يصنِّفه ضمن طائفة “الـمُغرَّبين” الذين قصَدهم بحواراته منذ الثمانينيات بمحاضرة دار الثقافة بمدينة الرباط[18]، إلى السلسلة الحوارية التي طبعت في منتصف التسعينيات، وأستسمح القارئ هنا لأورد أحد نصوصه التي أزعم أنه يقصد بها نقد منهج القطيعة مع التراث التي اشتهر به عبد الله العروي، إذ يقول في فقرة بعنوان “الانقطاع المعرفي”:

“اعتذاري للقارئ الذي بقي على أصله لم يبتل بمجادلة أجيال تلوك الكلام المترجم. إنها طوائف مما يسمى بالمثقفين نحب أن يجدوا هنا يوم تنقشع عن أعينهم الغفلة، أو بعضُ سُحُبِها، أسبابا للحوار عسى يفيئون إلى الله ويرجعون عن أفيون الفكر المادي.

سيطرت الحضارة الجاهلية المحتلة على أرض المسلمين واقتصادهم وثقافتهم، فانقطع في تصور الذراري المغربين ما كان موصولا في تاريخنا. فإذا بهم يقفون أساتذة، نوابا وخلفاء للمستعمر، يلقون في جرائدهم ومجلاتهم وكتبهم وفي جامعاتنا ومدارسنا الدعوة للنمط الجاهلي، يستندون إلى هيبة الحضارة الميكانيكية في نفوس المغلوبين. يغمرون الجو الثقافي بفلسفة المدارس الجاهلية التي ينوبون عنها بين ظهرانينا. ويشوهون للأجيال الصاعدة صورة الإسلام وتاريخ الإسلام، ويبثون منهاج اللاييكية والتاريخانية والتراثية القومية.

مِن هؤلاء، وفي طليعة الغزو الفكري، دعاة لما يسمونه «الانقطاع الإبستمولوجي». وتعني الكلمة والدعوة أن نفصل بيننا وبين القرآن والإيمان والألوهية والربوبية والنبوة والوحي فصلا نهائيا. وذلك عندهم شرط أساس لنهضة «الأمة» العربية. يا حسرتا على عروبة تخرب الإسلام ولم تكن

العروبة شيئا يذكر لولا الإسلام! عندهم ماثلا في العقول والضمائر تاريخ أوربا، فلا يتصورون سبيلا للخلاص التاريخي إلا بمحاكاة ذلك التاريخ. فكما انقطعت شعوب أوربا عن الكنيسة واعتمدت مصدرا للمعرفة الفكرَ الحرَّ البشري الذي كانت تضطهده وتقاتله الكنيسة، يجب أن ننقطع نحن عن الدين السماوي، ونُهديَ كياننا قربانا للعبقرية الأوربية، علّها تقبلنا وتعترف بأننا من بني الإنسان. ولا بأس بعد ذلك أن نحتفظ بالتراث في متحف الأمجاد القومية.”[19]

انتهى كلام عبد السلام ياسين في نقد تاريخانية عبد الله العروي المترجَمة، وكشف ميله إلى التغريب، ورد قوله بالقطيعة مع التراث. وليس في النص الذي بين يدي القارئ ما يحتاج إلى مزيد تفصيل وبيان. وأخيرا يمكن القول بأن التقابل بين الرجلين يكاد يختزل التقابل بين مشروعين معاصرين؛ مشروع تجديد الإسلام من جهة ومشروع استنبات القومية العلمانية من جهة ثانية. فهل من سبيل إلى حوار حقيقي يقرب الشقة ويقلص الفرقة؟

 

مصادر ومراجع:

إدوارد، سعيد. المثقف والسلطة، ترجمة محمد عناني، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2006م

الحبابي، محمد عزيز. من المنغلق إلى المنفتح: عشرون حديثا عن الثقافات القومية والحضارة الإسلامية، مكتبة الأنجلو مصرية، القاهرة، ط 1، 1973م.

ياسين، عبد السلام. مقدمات لمستقبل الإسلام، مطبعة الخليج العربي، تطوان، ط 1، 2005م

ياسين، عبد السلام. إمامة الأمة، دار لبنان، بيروت، ط 2، 2018م.

ياسين، عبد السلام. العدل: الإسلاميون والحكم، مطبوعات الصفاء، البيضاء، ط1، 2000م.

ياسين، عبد السلام. المنهاج النبوي، دار إقدام للطباعة والنشر والتوزيع، إستانبول، ط 5، 2022م

ياسين، عبد السلام. حوار مع الفضلاء الديموقراطيين، دار لبنان، بيروت، ط 2، 2018م.

العروي، عبد الله. ذكريات الصباح(يوميات 1967-2007)، المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء، ط1، 2017م

العروي، عبد الله. الإيديولوجية العربية المعاصرة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط3، 1995

العروي، عبد الله. “حوار مع عبد الله العروي”، مجلة آفاق، حاوره عبد الله ساعف، عدد 4/3، الرباط، ط1، 1992.

التوراني، عبد الرحيم. “عبد الله العروي الآخر:المرشح البرلماني..المتسامح مع التطبيع..وصهر تاجر السلاح”، موقع (dabapress.com)، منشور يوم 5 أبريل 2020، قرأته يوم نشره.

[1]– العروي، عبد الله. ذكريات الصباح(يوميات 1967-2007)، المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء، ط1، 2017م، ص 710

[2]– المرجع نفسه، ص 713

[3]– المرجع نفسه، ص 707.

[4]– المرجع نفسه، ص245

[5]– المرجع نفسه، ص245

[6]– منهم الفيلسوف طه عبد الرحمن والوزير أحمد توفيق والأستاذ المصطفى عزام.

[7]– العروي، عبد الله. ذكريات الصباح، مرجع سابق، ص245

[8]– المرجع نفسه، ص 217

[9]– التوراني، عبد الرحيم. “عبد الله العروي الآخر:المرشح البرلماني..المتسامح مع التطبيع..وصهر تاجر السلاح”، موقع (dabapress.com)، منشور يوم 5 أبريل 2020، قرأته يوم نشره.

[10]– لا ننسى اعتراف العروي بتكليف الحسن الثاني له سنة 1991 بالتوجه إلى أوروبا لإقناع قادة اليسار الأوروبي بالكف عن حملتهم الحقوقية والإعلامية والسياسية ضد الملك، في كتابه “LeMaroc et Hassan II: Un témoignage” ، والذي كُتب في الغالب بإيعاز من الملك.

[11]– المرجع نفسه.

[12]– العروي، عبد الله. ذكريات الصباح، مرجع سابق، ص 710

[13]– ياسين، عبد السلام. المنهاج النبوي، دار إقدام للطباعة والنشر والتوزيع، إستانبول، ط 5، 2022م، ص 15

[14]– انظر: العروي، عبد الله. الإيديولوجية العربية المعاصرة، المركز الثقافي العربي،الدار البيضاء، ط3، 1995، ص 94

[15]– انظر: إدوارد، سعيد. المثقف والسلطة، ترجمة محمد عناني، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2006م، ص 168-169

[16]العروي، عبد الله. “حوار مع عبد الله العروي”، مجلة آفاق، حاوره عبد الله ساعف، عدد 4/3، الرباط، ط1، 1992، ص 147 إلى 190

[17]– الحبابي، محمد عزيز. من المنغلق إلى المنفتح: عشرون حديثا عن الثقافات القومية والحضارة الإسلامية، مكتبة الأنجلو مصرية، القاهرة، ط 1، 1973م ، ص 270

[18] – المحاضرة منشورة بموقع الموسوعة الإلكترونية للأستاذ عبد السلام ياسين (yassine.net).

[19]– ياسين، عبد السلام. مقدمات لمستقبل الإسلام، مطبعة الخليج العربي، تطوان، ط 1، 2005م، ص 15-16

ــــــــــــــــــــــــــــــ

* أحمد الفراك، أستاذ الفلسفة والفكر بكلية أصول الدين / جامعة عبد المالك السعدي بتطوان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *