في مفارقة صارخة بين الأدب والواقع، يتعرض الكاتب الجزائري الفرنسي بوعلام صنصال، صاحب روايات تقاوم الاستبداد والظلم، للاعتقال من طرف نظام بلده الذي كان يتقلد فيه منصبا ساميا، قبل أن يحكم بالسجن لخمس سنوات نافذة ابتدائيا واستئنافيا، الرجل الذي صار ورقة من أوراق ابتزاز تجاه فرنسا التي حصل على جنسيتها العام الماضي، تعرض لحملة إدانة انخرط فيها الرئيس ومجلس الأمة وصحافة المرادية، في خرق سافر لقرينة البراءة، قبل أن توجه له تهم سريالية بسبب خوضه في حقائق تاريخية مرتبطة بمسألة الحدود بين المغرب والجزائر، وصولا إلى تفكيك جذور صناعة البوليساريو لزعزعة استقرار المغرب.
قضية صنصال، لم تفضح فقط تسييس القضاء وسيادة القمع الذي يقاومه من خلال كتاباته، بل فضحت كذلك المنظمات الحقوقية الدولية التي أبانت عن نهجها لسياسة الكيل بمكيالين، عبر صمتها المريب أمام إدانة كاتب لا يملك سوى لسانه وقلمه وشجاعة في اختراق أكاذيب ما يشبه “وزارة الحقيقة” في رواية “1984” لأورويل التي أستلهم منها روح روايته “2084، نهاية العالم”.
بين خيال “آبيستان” وواقع “جزائرستان”
في روايته “2084، نهاية العالم”، يواصل الكاتب الجزائري الفرنسي فضح التطرف والاستبداد الذي ميز أعماله الأدبية، الرواية التي نشرتها “دار غاليمار” الفرنسية سنة 2015، يتنبأ فيها بنهاية العالم عام 2084 بعد هيمنة امبراطورية “آبيستان” التي يحكمها مرشد ديني يمنع سكانها من التجول، ولا يسمح بالتنقل بين المدن سوى لمن يختارهم وفقا لطاعتهم، يخضعهم لمراقبة متواصلة تحت إشراف جهاز أمني يتحكم في جميع مفاصل حياتهم، ومن لم يخضع منهم يكون مصيره الجلد والرجم والذبح في ساحات عمومية، قمع يراد منه توحيد الناس عبر استعمال سلطة الخوف والرعب، يتعلق الأمر بقصة حكم شمولي ديني مكن نظام المرشد من بسط سلطته على الأرض.
استلهم صنصال روح “2084، نهاية العالم” من رواية “1984” لجورج أورويل التي تتناول نظام حكم استبدادي قائم على القمع والمراقبة الشاملة للمواطن، حيث يقوم الحزب الوحيد الذي يرأسه “الأخ الأكبر” بتزوير التاريخ وفرض أفكار وعقائد على المقاس، يتوجب على الجميع الخضوع لها، يشعر بطل الرواية “وينستون سميث” الذي يعمل ب”وزارة الحقيقة” بالغربة في مجتمع قمعي يقتات على تزوير الحقائق، فيسعى للتعبير عن نفسه في مقاومة الشمولية. سيرة صنصال قد تشبه في جوانب منها قصة “سميث”، حيث قاوم الإثنان معا سلطة الرأي الواحد، الأول قاوم الحزب الأوحد والثاني التيار الإسلاموي والنظام العسكري معا، يجد بوعلام نفسه بدون عمل حينما أقيل من منصبه السامي بوزارتي الصناعة والتجارة الجزائرية. رغم أن الرجل قضى سنوات في خدمة النظام، فإقالته لم تأخذ سوى أربع دقائق حسب تصريح أدلى به الهاشمي جعبوب صاحب قرار الفصل (لقناة الشروق)، جعبوب ذكر أن مسؤولا بديوان رئيس الحكومة اتصل به آنذاك ليؤاخذه على طرد شخصية نافذة ومشهورة تخدم مصالح الجزائر في المحافل الدولية.
أصدر صنصال أول رواية له سنة 1999 تحت عنوان “قسم البرابرة”، تتناول بدورها موضوع الاستبداد والعنف وانتهاك حقوق الإنسان، حيث أدى تكليف مفتش شرطة بالتحقيق في جريمتين متوازيتين إلى كشف الفساد والعنف المستشري بالجزائر. جرت عليه أعماله وكتاباته الكثير من النقد، حيث اتهمه البعض بتمجيد الاستعمار ومعاداة حركة التحرير الجزائرية، لكنه بقي صامدا إلى أن اقتنع بهزيمة الفكر الحداثي أمام الإسلاميين وتمادي السلطة في انتهاك الحريات، ليقدم على طلب الحصول على الجنسية الفرنسية، وهو ما تأتى له في 2024، لتتغير حياة أديب يحلم بمجتمع منفتح تحترم في الحريات، ويتغير معها سلوك نظام يعادي الحقيقة، ليحوله منذ ذلك الوقت إلى ورقة لابتزاز فرنسا، دون أن يتطور الأمر لاعتقاله.
من منبر “حدود” و”مسألة الحدود”، إلى “سجن بلا حدود”
لا شك أن الأجهزة الأمنية الجزائرية كثفت من مراقبة تحركات صنصال منذ حصوله على الجنسية الفرنسية، خصوصا مع ارتباك العلاقات بين البلدين باعتراف الإليزيه بسيادة المغرب على صحرائه، تحول وازته جرأة أكبر لصنصال في فضح النظام وممارساته، لكن كتاباته وتصريحاته التي تحمل انتقادا واضحا للمرادية إلى جانب الإسلام السياسي، لم تكن كافية لاتخاذ قرار اعتقاله، قبل أن ينفذ صبر النظام عندما نكأ الكاتب أعمق جرح للمرادية: “التاريخ المصطنع” وفضح الأسس الحقيقية لعقيدة “العداء للمغرب”. يذكر الكاتب الصحفي علي بوخلاف أثناء اعتقال صنصال في نونبر 2024 بمطار الجزائر العاصمة، أن بوعلام “كان يزور بلده بانتظام، بل كان يمكث فيه باستمرار قبل سفره إلى فرنسا العام الماضي لعلاج زوجته”، ويضيف: “زار في نونبر الماضي الجزائر واستقر بها لعدة أيام قبل عودته إلى فرنسا بدون أي مشكلة”.
لا شك أن صنصال صار في مرمى النظام أكثر من أي وقت مضى، كما أنه من المفترض أن يكون ورقة من أوراق كثيرة يستعملها في مواجهة فرنسا، خصوصا بعد اعترافها بمغربية الصحراء، لكن اقتحامه لدهاليز “وزارة الحقيقة” التي كانت سببا في تعاسة “سميث” في رواية “1984”، وخوضه في فضح أكاذيب الروايات التاريخية المصطنعة للجزائر، وحديثه عن خلفيات صناعة البوليساريو في مختبرات النظام، كانت النقطة التي أفاضت غضب المرادية قبل أن تقرر اعتقال رجل قدم لها خدمات جليلة عندما كان مسؤولا ساميا.
قرار اعتقال صنصال اتخذ يوم 2 أكتوبر 2024، بعد الحوار الذي أجراه مع منبر “فرونتيير” أو “حدود” الموالي لليمين الفرنسي، منبر غير اسمه القديم “الكتاب الأسود” المستلهم من عنوان لإحدى مؤلفات إريك زمور (الكتاب الأسود لليمين). من قلب هذا “الكتاب الأسود” سيقتحم صنصال بعضا من صفحات كتاب “التاريخ الأسود” للنظام العسكري الجزائري، ومن استوديو “حدود” سيخوض في جذور مشكل الحدود بين المغرب والجزائر.
في معرض إجابته عن سؤال لمحاوره، ذكر صنصال بعراقة وقوة المغرب كدولة يمتد تاريخها إلى 12 قرنا، بينما تاريخ فرنسا يعود لألف سنة فقط، مشيرا إلى أن الإمبراطورية المغربية امتدت إلى مصر شرقا والسنغال جنوبا وإسبانيا شمالا، وأن فرنسا فرضت على المغرب نظام الحماية وليس الاستعمار، لأن الأمر يتعلق بدولة مؤسسات يستحيل تفكيكها، و أن بداية مشاكل المملكة بدأت مع إلحاق مناطق مغربية بالجزائر الفرنسية، مذكرا بدعم ملك المغرب للمقاومة الجزائرية ديبلوماسيا وماليا وعسكريا، مقابل وعد قدمته حركة التحرير باستعادة الأراضي المغربية بعد نيل الاستقلال، لكنها نكثت بالاتفاق، مما أرغم المغرب على الانخراط في حرب توقفت بفضل وساطات دولية، ليرد النظام العسكري بصناعة “البوليساريو” من أجل زعزعة استقرار المملكة.
ما ذكره صنصال في حواره يعد قراءة لمعطيات تاريخية يعرفها جميع مؤرخي العالم ممن اطلع على التاريخ الحقيقي للمنطقة بعيدا عن البروباغندا الجزائرية المهزوزة، وهناك آلاف الوثائق في الخزانة الملكية بالرباط وسجلات وخرائط فرنسية كثيرة تثبت سيادة المغرب على هذه الأراضي، لكن مهمة المرادية إسوة بوزارة “الحقيقة” في رواية “1984” لأورويل، هو طمس الحقيقة عبر صناعة “أوهام” تتحول إلى حقائق جديدة لدى الناس، وما “البوليساريو” سوى أداة من أدوات هذا الطمس، معتقدة أن صناعة “مشروع انفصالي” بالجنوب سيطوي صفحة المطالبة بأراضي الشرق، وهو في الآن ذاته مخطط يهدف لصناعة رأي عام داخلي قادر على “هضم” فشل دولة الاستقلال في تحقيق الطموحات، من خلال توجيهه إلى التركيز على “عدو على الحدود يحاول إعادة تشكيل الحدود”.
وهنا لابد أن ندقق في مسألة مهمة، فصنصال لم يدع إلى إرجاع المناطق الشرقية التي ألحقتها فرنسا بمقاطعتها سابقا، بل كان يحاول تقديم قراءة لمعطيات تاريخية، بنية التأصيل لجذور المشاكل بين البلدين، وتقريب المشاهد للسياق التاريخي لصناعة البوليساريو. إلا أن عقدة الجزائر الأولى هي التاريخ، هي عراقة المغرب، وخطها الأحمر الأول هو الخوض في حقيقة ما وقع بشأن مناطق واسعة كانت جزء من المملكة، أما تفكيك حقيقة “البوليساريو” التي صنعتها المرادية، فيعد تفكيكا لإحدى أهم الأسس التي بني عليها نظام يقتات على الأساطير الموجهة لزعزعة استقرار مملكة عريقة.
خروقات قانونية مفضوحة وصمت حقوقي مريب
اعتقل صنصال في نونبر 2024، وحكم عليه بخمس سنوات سجنا نافذا من قبل محكمة الدار البيضاء للجنح في مارس الماضي، قبل تأييد الحكم في محكمة الاستئناف، محاكمة أجمع الكثير من الحقوقيين على أنها تفضح عمق تسييس القضاء الجزائري بما يقوض حرية الرأي والتعبير، بعيدا عن “الأسطوانة المشروخة” بشأن حقوق الإنسان في بلد يواصل خرقه السافر لالتزاماته الدولية بشأن الحريات. وكرد على هذا الانتهاك الحقوقي، أعلن محامي صنصال فرانسوا زيمراي في مارس الماضي، عزمه رفع دعوى ضد الجزائر أمام الهيئات التابعة للأمم المتحدة ضد هذا الاحتجاز التعسفي، دون تمكينه من تأشيرة لزيارته موكله ولقائه والتواصل معه، مما يستحيل معه تحقيق محاكمة عادلة للمته، واتهم زيمراي المرادية والصحافة التابعة لها، بشن حملة إعلامية معادية للسامية ضده بسبب أصوله اليهودية.
إن متابعة صنصال بموجب المادة 87 مكرر من قانون العقوبات، التي تنص على أن ” كل فعل يستهدف أمن الدولة والوحدة الوطنية والسلامة الترابية واستقرار المؤسسات وسيرها العادي، هو فعل إرهابي أو تخريبي”، يعد تعسفا واضحا بحق كاتب لم يرتكب أي جريمة سوى الإجابة عن سؤال منبر “حدود” حول الحدود التاريخية بين المغرب والجزائر، بناء على معطيات تاريخية معروفة. والخروقات القانونية والحقوقية التي شابت هذه القضية لا تتعلق فقط بتوجيه تهم تعسفية ذات طبيعة سياسية، ولا بمحاكمة المعتقل دون تمتيعه بأدنى شروط المحاكمة العادلة بدء بتغييب محاميه، بل أيضا بخرق قرينة البراءة، فقد وصف رئيس الدولة أمام البرلمان في اجتماعه الاستثنائي صنصال بالمحتال، متوجها إلى فرنسا: “أرسلتم لنا محتالا لا يعرف هويته ولا أباه، يقول إن نصف أرض الجزائر تنتمي إلى بلد آخر”، وهو تحريض وتوجيه واضحين للسلطة القضائية من طرف رئيس الدولة لإدانة المتهم دون أدنى احترام لقرينة البراءة، ويمكننا أن نضيف أن ذكر “لا يعرف أباه” يعد قذفا يمس بشرف وكرامة المتهم.
بالإضافة إلى تدخل الرئيس في القضاء وإدانته المسبقة للمتهم ومسه بكرامته، انخرطت المؤسسة التشريعية بدورها بشكل سافر في التأثير على القضاء، عبر بيان لمجلس الأمة علق عليه حمة شوشان عضو المجلس عن الثلث الرئاسي، واصفا بوعلام صنصال ب”الخائن الكبير لبلده وشعبه”، كل ذلك ينضاف إلى حملة شعواء قادتها مختلف المنابر الصحفية الجزائرية ضد كاتب لا يملك سوى قلمه ولسانه.
خروقات فجة وازاها صمت على مستوى المنظمات الحقوقية الجزائرية، باستثناء منظمة “شعاع” لحقوق الإنسان، التي استفادت من وجود مقرها المركزي بالمملكة المتحدة، لاقتحام الخوف الذي يهيمن على الحياة السياسية والحقوقية بالبلد الجار، حيث أقرت المنظمة أن الجزائر تعيش تضييقا “غير مسبوق”، وأضافت أن القمع “لم يقتصر على الداخل بل أصبح عابرا للحدود، وشمل صحفيين ومحامين وناشطين، وصارت السلطة لا تفرق بين أحد، وتمارس قمعها بلا تمييز على كافة الأطياف”، ويصف رشيد عوين رئيس المنظمة تصريحات صنصال بأنها “تعبير سلمي” عن رأيه الشخصي، ولا يوجد فيها تحريض واضح يبرر ملاحقته بموجب مواد قانونية لها علاقة بالوحدة الوطنية، موضحا أن ما طرحه صنصال “كان سردا تاريخيا، سبقه إليه العديد من الكتاب والمفكرين من المنطقة المغاربية”.
أمام منظمة حقوقية جزائرية (يوجد مقرها خارج البلاد) امتلكت الشجاعة الكافية لفضح الخروقات المكشوفة التي طبعت قضية صنصال، كانت مواقف بعض المنظمات الحقوقية الدولية مثيرة للشفقة والاستغراب، بينت رسوخ سياسة “الكيل بمكيالين” في تعاملها مع القضايا الحقوقية، حيث لا تتوانى عن مهاجمة المغرب في كل مناسبة أو بدونها، بشكل يظهر عداءها الممنهج للمملكة، وعلى رأس هذه الهيئات نجد منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش ومراسلون بلا حدود، التي بلعت ألسنتها وساد مقراتها صمت الجنائز عندما تعلق الأمر بانتهاك جسيم ارتكبته الجزائر في حق كاتب عبر عن رأيه، فهل منظومة حقوق الإنسان فعلا كل لا يتجزأ؟ أم أن هناك استثناءات وسياقات ومصالح معينة تحكم مواقف هذه المنظمات؟، إنه اختبار لخطاب حقوقي عالمي يبدو مزيفا، مما يساهم في يضع مصداقية هذه المنظمات واستقلاليتها على المحك، ويسقطها في المحاباة والانتقائية، بل هناك من يذهب أكثر من ذلك متسائلا عن علاقتها بالأجندات الجزائرية، وهو تساؤل يرسخه الصمت المطبق تجاه قضايا انتهاك واضحة مثل قضية صنصال.
* إعلامي ورئيس منظمة جيل تمغربيت.