سلسلة “مغرب الحضارة”.. التنمية العادلة ممكنة بالالتزام بالأولويات والترشيد (ج3)

بعيدًا عن منطق التعالي، وانطلاقًا من التجربة، وبناءً على تقارير مؤسسات الحكامة، أكاد أجزم أنه بالإمكان إنجاز أكثر مما يُنجز وبجودة أعلى، ولصالح فئات ومناطق ذات أولوية، إذا ما التزمنا بالأولويات المبرمجة وبالحكامة الجيدة، ومن ذلك الترشيد وتقديم الأفضلية لكل ما هو مغربي.
وإن من أسوأ مظاهر ضعف الحكامة وأحد أبرز أسباب التفاوتات الاجتماعية والفوارق المجالية، التبذير في إنفاق المال العام. ومجالات التبذير عديدة ومتنوعة، مما يستدعي التعجيل بتفعيل كل التشريعات والإجراءات ذات الصلة. والأمثلة كثيرة:
الطرق: تُنجَز طرق جديدة أو تُعاد هيكلة أخرى وتوسيعها، لكن يُرفق ذلك أحيانًا بترصيص وزخرفة غير ضرورية للجوانب، أو بمواد مرتفعة الثمن، وقد يتم الاستغناء عن مواد ما تزال متينة وصالحة.
الإنارة العمومية: تُرصد لها ميزانيات تفوق الحاجة، بأعمدة ذات تصاميم مكلفة حتى في شوارع محدودة الاستعمال أو مراكز قروية. وأحيانًا يتم تكثيف الأعمدة بمسافات قصيرة مما يضاعف الكلفة، بل يُستغنى عن تجهيزات ما تزال صالحة ولا تحتاج سوى إلى صيانة بسيطة.
الساحات والمنتزهات والمرافق العمومية، وخاصة الاجتماعية والثقافية والرياضية: هي ضرورية، لكن غالبًا ما يُعاد تأهيلها أو تجهيزها بكلفة مرتفعة بسبب إضافات وتحسينات غير لازمة تُثقل الميزانيات. ولو وُجهت هذه الاعتمادات إلى أحياء ناقصة التجهيز لكان أثرها أعمق لدى المواطن.
المباني الإدارية والخدماتية (مثل النقل): تُبنى أو تُجدد بإفراط في المكونات، كالجدران الزجاجية والرخام والإضاءات المرفهة ومكونات أخرى ثانوية، مما يرفع الكلفة الأولية ويضيف أعباء صيانة باهظة.
المهرجانات والحفلات: تُنظم أحيانًا بكلفة عالية، حتى في جماعات قروية فقيرة أو مدن تفتقد أحياؤها إلى مرافق أساسية. في حين يمكن لأنشطة ثقافية ورياضية وفنية أقل كلفة أن تحقق نفس الأثر، مع تثمين المؤهلات المحلية.
المقتنيات: تُقتنى سيارات وآليات وتجهيزات وحواسيب وطابعات ومعدات مكتبية أخرى باهظة الثمن أو غير ضرورية. ومثل صارخ لذلك ومثلها كثير: اقتناء جماعات قروية لسيارات رباعية الدفع دون حاجة فعلية إليها.
نفقات التسيير: تُرصَد ميزانيات كبيرة للصيانة والوقود والطباعة والأسفار والإعلانات ودعم الجمعيات والمنابر الإعلامية. ورغم أهميتها، إلا أن المبالغة في الإنفاق عليها واضحة.
كل سنة، تُعلن آلاف الصفقات والطلبيات في الوزارات والمؤسسات والشركات العمومية والجماعات الترابية، وتكلف مليارات الدراهم. ولا أبالغ إن قلت إن التركيز على الضروريات فقط قد يمكّن من تقليص الميزانية بنسبة معتبرة، مما يسمح بالاستجابة لحاجيات إضافية في نفس القطاعات والجماعات، أو بتقليص الفوارق المجالية، أو بدعم التعليم والصحة والتشغيل.
كما أن من الترشيد، بل ومن الوطنية الصادقة، أن تُعطى الأولوية للشركات الوطنية والمقاولات الصغرى والتعاونيات، وللمنتوج الوطني وللصناعة التقليدية، بما يقلل من الاستيراد ويحد من العجز التجاري، ويقوي الفاعل الوطني ويدعم الصناعة والحِرف المغربية. أما عكس ذلك، فهو تكريس للتبذير والتفريط في كل ما هو مغربي.
ومن الترشيد أيضًا استغلال الفراغات الكثيرة في الأرصفة والساحات والمنتزهات والمرافق والبنايات الخدماتية ومحيطها لإقامة محلات وأنشطة تجارية وخدماتية ومعارض دائمة للصناعة التقليدية. وهذا من شأنه أن يحقق مداخيل معتبرة تُسهم في الصيانة واسترجاع جزء من الاستثمار، فضلًا عن خلق فرص شغل يحتاجها الوطن بشدة.
إن التنمية العادلة ليست حلمًا عابرًا، ولا وهما يُتداول في الخطب والشعارات، بل هي ثمرة صدق في الإرادة ورشد في التدبير. فإذا التزمنا بالأولويات، وأحسنا توجيه المال العام، وأعطينا المقام الأول لما هو مغربي في الإنسان والمنتوج، أمكن لكل درهم أن يترك أثرًا مضيئًا في حياة المواطن. وحينها، يرسخ “مغرب الحضارة” في أبهى صوره: مغرب الكرامة والعدالة والإنصاف.
اترك تعليقاً