مجتمع

26 سنة من الحكم.. إصلاحات ملكية ترسخ دعائم الدولة الاجتماعية بالمغرب

تحل يوم الأربعاء 30 يوليوز 2025 الذكرى السادسة والعشرون لاعتلاء الملك محمد السادس عرش المملكة المغربية، وهي محطة بارزة في الذاكرة الوطنية، تستدعي الوقوف عند مسيرة إصلاحات كبرى طبعت مختلف القطاعات، وعلى رأسها الورش الاجتماعي، الذي حظي بأولوية ملكية راسخة منذ السنوات الأولى من تولي  الحكم، فقد تميز العهد الجديد بانخراط قوي في مسلسل بناء دولة اجتماعية عادلة ومتوازنة، تتوخى تعزيز كرامة المواطنين، وتقليص الفوارق، وتحقيق التنمية البشرية الشاملة.

وقد كانت انطلاقة هذا المسار واضحة منذ إحداث هيئة الإنصاف والمصالحة سنة 2004، كآلية غير مسبوقة في المنطقة العربية، مهمتها معالجة انتهاكات الماضي الحقوقي، وتعويض الضحايا ماديا ومعنويا، والمساهمة في ترسيخ السلم الاجتماعي وثقافة الإنصاف، هذه الخطوة التاريخية عكست توجها ملكيا نحو مصالحة شاملة، جسّدها خطاب العرش سنة 2004.

وفي 2005، أعلن الملك عن إطلاق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، كركيزة أولى لترسيخ العدالة الاجتماعية ومكافحة الفقر والهشاشة، من خلال مشاريع مدرة للدخل، وتحسين البنيات الأساسية في الأحياء الهامشية والمناطق القروية، وتعزيز الخدمات الصحية والتعليمية، كنقلة نوعية في العمل الاجتماعي بالمغرب، لأنها قامت على مبدأ المشاركة، وجعلت المواطن شريكا في تشخيص حاجياته وصياغة حلولها.

وارتباطا بالاهتمام الملكي الدائم بتمدرس الأطفال وتكافؤ الفرص، تم إطلاق برنامج “مليون محفظة” سنة 2008، متبوع ببرنامج “تيسير” للتحويلات المالية المشروطة، الذي ساهم في خفض معدلات الهدر المدرسي بالمناطق القروية، أما سنة 2012، فقد شهدت تعميم نظام “راميد” للمساعدة الطبية لفائدة الفئات المعوزة، كأحد أبرز تجليات الدولة الاجتماعية في بعدها الصحي، قبل أن تُعزز لاحقاً ببرامج دعم الأرامل، والمساعدات الغذائية خلال شهر رمضان.

وفي إطار هيكلة الحقل الديني بما ينسجم مع قيم الوسطية والانفتاح، أطلق الملك محمد السادس سلسلة من الإصلاحات ابتداء من 2002، مست التعليم العتيق، وإعادة تنظيم المجالس العلمية، وإنشاء معاهد لتكوين الأئمة والمرشدات، بالإضافة إلى دعم الحضور النسائي في التأطير الديني، وهو توجه غير مسبوق في المنطقة.

أما سنة 2004، فقد شهدت لحظة محورية في مسار إصلاح الأسرة، من خلال صدور مدونة الأسرة، التي أعادت التوازن في العلاقة بين الجنسين، ورسخت حقوق المرأة والطفل، واستجابت لانتظارات مجتمعية طال أمدها. وبعد مرور عقدين على تطبيقها، دعا الملك في خطاب العرش 2023 إلى مراجعتها بما يعزز حماية الأسرة في إطار المرجعية الدينية والوطنية.

وجاء إطلاق النموذج التنموي للأقاليم الجنوبية سنة 2012 ليُعمّق البعد الاجتماعي للمشروع الملكي، عبر مشاريع في البنيات التحتية، الصحة، التعليم، والتشغيل، ثم تلاها إحداث اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي الوطني سنة 2019، بهدف إعادة هيكلة الخيارات الاقتصادية والاجتماعية للبلاد برؤية استشرافية.

ومع حلول سنة 2021، دشن الملك واحداً من أضخم الأوراش الاجتماعية في تاريخ المغرب، والمتمثل في تعميم الحماية الاجتماعية، عبر مراحل تشمل التغطية الصحية، التقاعد، تعويضات الأسرة، وتعويضات فقدان الشغل، وهو مشروع طموح يلامس حياة ملايين المغاربة، ويشكل نواة الدولة الاجتماعية الحديثة.

وفي تصريح خاص لجريدة “العمق المغربي”، بمناسبة الذكرى السادسة والعشرين لعيد العرش، أكد الميلودي مخارق، الأمين العامة لنقابة للاتحاد المغربي للشغل، أن المسار الاجتماعي في عهد الملك محمد السادس “اتسم بالإرادة الحقيقية في تجفيف منابع الفقر والهشاشة”، مشددا على أن “الورش الملكي لتعميم الحماية الاجتماعية يُعد تتويجاً لعقود من النضال النقابي من أجل العدالة الاجتماعية، وهو إصلاح مفصلي لا يقل أهمية عن الإصلاحات السياسية والدستورية الكبرى التي عرفها المغرب”.

وأوضح مخارق أن “الطبقة العاملة المغربية تنوه بالنتائج المحققة في مجال تعميم التغطية الصحية والتقاعد، حيث أضحى مئات الآلاف من العمال غير الأجراء والمهن الحرة يستفيدون من خدمات صحية كانت في السابق حكرا على فئات محدودة، في انتظار استكمال حلقات الورش عبر تنزيل تعويضات فقدان الشغل، وهو مطلب مشروع لطالما دافعنا عنه داخل الحوار الاجتماعي”.

و دعا الكاتب الوطني للاتحاد المغربي للشغل الحكومة إلى “تحمل مسؤوليتها في التسريع بتنزيل التزاماتها الاجتماعية”، مشدداً على أن “نجاح هذا الورش رهين بحكامة جيدة، وتمويل مستدام، وإنصاف حقيقي للفئات الهشة”، معربا  تهانيه الخالصة للملك، قائلاً: “باسم الاتحاد المغربي للشغل، وباسم الطبقة العاملة المغربية، نتقدم بأحر التهاني والتبريكات إلى صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، متمنين له دوام الصحة وطول العمر، ومزيداً من التوفيق في خدمة قضايا الوطن والمواطنين”.

وفي هذا السياق يرى الباحث في العلوم السياسية، عمر وقاد،أن الإصلاحات الاجتماعية التي شهدها المغرب خلال 26 سنة من حكم الملك محمد السادس لا يمكن فصلها عن التحولات العميقة في فلسفة الحكم التي أرساها العاهل المغربي منذ توليه العرش سنة 1999، مشيرا إلى أن مفهوم “الدولة الاجتماعية” لم يكن مجرد شعار، بل أصبح توجها استراتيجيا تراكم عبر مبادرات متعددة ومترابطة، تستهدف وتحقيق العدالة الاجتماعية وتعزيز صلابة النسيج الوطني.

وأكد وقاد في تصريح للجريدة، أن هذه الإصلاحات بدأت مبكرا بترسيخ ما يُعرف بالعدالة الانتقالية عبر إنشاء هيئة الإنصاف والمصالحة، التي لم تُعالج فقط الماضي الحقوقي، بل كانت، في جوهرها، خطوة تأسيسية لمنظور جديد للعدالة المجتمعية، ينظر إلى المصالحة مع المواطن باعتبارها شرطا لمشروعية الحكم وثقافة سياسية جديدة، مضيفا أن هذا التأسيس لم يكن منفصلا عن إطلاق برامج تنموية مثل المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، التي شكّلت امتدادا عمليا لمقاربة الحقوق الاجتماعية.

ويرى الباحث أن أحد الأبعاد اللافتة في الإصلاح الاجتماعي المغربي هو الحرص على توازن دقيق بين المرجعيتين الدينية والحقوقية، خاصة في ما يتعلق بقضايا الأسرة والمرأة، فقد استطاع النظام المغربي، تحت القيادة الملكية، أن يُحدث إصلاحات جوهرية في مدونة الأسرة عام 2004، دون أن يصطدم مع البنية الثقافية المحافظة، وهو ما يعكس نضجا سياسيا في إدارة التغيير داخل مجتمع تعددي المرجعيات.

من جهة أخرى، أشار المتحدث إلى أن الإصلاحات التي طالت الحماية الاجتماعية تُعبّر عن انتقال في نموذج الدولة من دور “المُنظِّم” إلى دور “الراعي”، خاصة مع إطلاق ورش التغطية الصحية الشاملة وتعميم التقاعد والتعويض عن فقدان الشغل، هذا التحول البنيوي، بحسبه، يؤسس لما يمكن تسميته “العقد الاجتماعي الجديد”، الذي يعيد تحديد العلاقة بين الدولة والمواطن، ويُحمّل الدولة مسؤولية مباشرة في ضمان الكرامة الاجتماعية للجميع، لا سيما للفئات الهشة وغير المهيكلة.

ونبه إلى أن هذه الإصلاحات، رغم أهميتها، لا تخلو من تحديات هيكلية، على رأسها محدودية الموارد المالية، وتفاوتات التوزيع المجالي، وضعف الحكامة المحلية، مما يتطلب، حسب تعبيره، “إرادة سياسية قوية لدى الحكومة والمؤسسات الوسيطة لترجمة التوجيهات الملكية إلى واقع ملموس، وضمان استدامة هذه المشاريع وتكاملها في ما بينها، بعيدا عن منطق الشعارات أو الحلول الظرفية”.

وخلص وقاد، إلى  المسار الاجتماعي في عهد الملك محمد السادس لا يمكن قراءته كأجزاء متفرقة، بل كمنظومة متكاملة تحكمها رؤية استراتيجية تراهن على الإنسان باعتباره محرك التنمية وغايتها. ويضيف: “لقد أدركت الدولة المغربية في هذا العهد أن الاستقرار السياسي لا يُبنى فقط على الأمن، بل على التنمية، وعلى تماسك اجتماعي يتجدد باستمرار، وهو ما يجعل من الورش الاجتماعي حجر الزاوية في المشروع الملكي لمغرب الغد”.