لم يعد الحديث عن العلاقة بين جبهة البوليساريو وحزب الله اللبناني مجرد مزاعم سياسية أو رواية مغربية تواجه بالتشكيك، بل أصبح اليوم موضوعا موثقا بالأدلة والشهادات. المقال الأخير للصحفية والباحثة الهولندية رينا نيتيس، Rena Netjes
المنشور في DAWN MENA، أعاد فتح هذا الملف الذي ظل مسكوتا عنه لسنوات، كاشفا من خلال معطيات دقيقة أن حضور البوليساريو في الساحة السورية لم يكن أسطورة ولا دعاية سياسية، وإنما واقع تؤكده وثائق أمنية وصور نادرة وشهادات خبراء وباحثين. واقع يلقي بظلاله الثقيلة على النقاش حول العدالة الانتقالية في سوريا، ويضع المنطقة أمام مشهد جديد لتشابك الأزمات والحروب بالوكالة.
منذ عام 2018، حين قررت الرباط قطع علاقاتها مع إيران متهمة طهران وحزب الله بتقديم دعم عسكري مباشر للبوليساريو، ظل الجدل قائما. آنذاك، اعتبر البعض أن الموقف المغربي يدخل في إطار توتر سياسي إقليمي أكثر مما يعكس معطيات ميدانية ملموسة. غير أن ما كشفه تقرير نيتجيس يغير المعادلة بالكامل: وثائق سورية تعود إلى 2012 تؤكد وجود 120 مقاتلا من جبهة البوليساريو مدمجين ضمن وحدات الجيش السوري، فيما عززت صور بثتها قناة “دويتشه فيله” هذه الرواية. إلى جانب ذلك، أثبتت شهادات باحثين سوريين أن التدريب العسكري جرى في معسكرات حزب الله بجنوب لبنان قبل نقل بعض العناصر إلى سوريا.
هكذا، يصبح من الصعب إنكار العلاقة أو اختزالها في “رواية مغربية”. ما بين الأدلة الصحفية، والوثائق الأمنية، والتقارير الدولية، تتشكل صورة أوضح لشبكة علاقات أوسع بكثير مما كان يتصور، وتكشف عن مدى تداخل أجندات إيران وحلفائها في المنطقة.
ولفهم خلفية وجود البوليساريو في سوريا، لا بد من العودة إلى التحالفات الإقليمية التي رسمت ملامح الحرب. فالجزائر، التي كانت من أوائل المدافعين عن نظام الأسد، رأت في ذلك امتدادا لاستراتيجيتها التقليدية المعادية للمغرب. أما إيران، فقد استغلت الصراع السوري لبناء “الجسر البري” الذي يربطها بالبحر الأبيض المتوسط، واضعة حزب الله في قلب هذا المشروع. في هذه المعادلة، لم يكن إدماج البوليساريو خيارا عابرا، بل تحصيل حاصل. فالنظام السوري، الذي اعتاد استخدام الحركات الانفصالية كورقة ضغط على خصومه – من دعم حزب العمال الكردستاني ضد تركيا، إلى مساندة الحوثيين ضد السعودية – وجد في استقبال البوليساريو امتدادا لهذه السياسة، ووفاء لتحالفاته مع إيران والجزائر.
لكن ما يجعل مقال رينا نيتيس ذا أهمية مضاعفة هو أنه لا يكتفي بتتبع العلاقات السياسية والعسكرية، بل يربط هذه الظاهرة مباشرة بمسار العدالة الانتقالية في سوريا. فبعد ما يقارب أربعة عشر عاما من الحرب، ورغم سقوط النظام السابق، ما زالت البلاد غارقة في ملفات معقدة تتعلق بالمحاسبة والمصالحة. وجود المقاتلين الأجانب – سواء من حزب الله، أو الميليشيات الأفغانية والباكستانية، أو البوليساريو – يطرح سؤالا جوهريا: كيف يمكن لسوريا أن تبدأ صفحة جديدة ما لم تحاسب الأطراف التي تورطت في جرائم ضد المدنيين؟ وكيف يمكن الحديث عن مصالحة وطنية حقيقية إذا تم تجاهل هؤلاء الفاعلين العابرين للحدود؟
إن العدالة الانتقالية ليست ترفا سياسيا ولا رفاهية نظرية، بل هي شرط أساسي لبناء مستقبل ديمقراطي مستقر. تجاهل ملف المقاتلين الأجانب يجعل العدالة ناقصة، وربما وهمية. فالمئات من مقاتلي البوليساريو اعتقلوا بالفعل، لكن غياب المحاكمات الشفافة والتوثيق الرسمي يعيد إلى الأذهان كابوس الإفلات من العقاب، ويقوض فرص مصالحة جادة.
من زاوية مغربية، يكتسي المقال أهمية استراتيجية؛ إذ يعزز موقف الرباط الذي طالما شدد على أن البوليساريو ليست حركة تحرر وطني كما تدعي، وإنما كيان عسكري يستمد قوته من شبكات مسلحة مدعومة من إيران. أما في السياق الإقليمي الأوسع، فإن القصة تكشف عن تشابك مذهل بين جبهات متباعدة جغرافيا: من جنوب لبنان إلى الصحراء، مرورا بسوريا. كلها ساحات تتقاطع فيها استراتيجيات طهران وحلفائها، في ما يشبه شبكة واحدة عابرة للحدود.
إن ما تكشفه الوثائق والشهادات حول وجود مقاتلي جبهة البوليساريو في سوريا ليس مجرد تفصيل عابر في حرب إقليمية معقدة، بل هو دليل إضافي على أن هذه الحركة لم تكن يوما مشروعا للتحرر أو خيارا شعبيا مستقلا، بل أداة في أيدي قوى خارجية تستعملها كورقة ضغط في لعبة النفوذ. والمغرب، وهو يواجه منذ عقود هذا النزاع المفتعل حول وحدته الترابية، يجد اليوم في هذه المعطيات فرصة تاريخية لتعزيز موقفه على الساحة الدولية.
فالدبلوماسية المغربية التي نجحت في توسيع دائرة الاعتراف الدولي بمغربية الصحراء، قادرة على توظيف هذه الأدلة لإبراز حقيقة البوليساريو أمام المجتمع الدولي: كيان مسلح عابر للحدود، منخرط في أجندات إيران وحلفائها، ولا يمت بصلة إلى قيم التحرر الوطني أو بناء الدولة. من هنا، تصبح مسؤولية الرباط أكبر في فضح هذه الشبكات، ليس فقط دفاعا عن وحدتها الترابية، بل أيضا حماية لاستقرار المنطقة برمتها.
إن معركة المغرب ليست معركة حدودية ضيقة، بل صراع من أجل الشرعية والسيادة والاستقرار. ومثلما أثبتت التجارب أن الحركات الانفصالية سرعان ما تتحول إلى أدوات للفوضى، فإن رهان المغرب اليوم هو أن يقدم للعالم نموذجا مضادا: دولة موحدة، مستقرة، تنخرط في التنمية والتعاون الإقليمي، وتقطع الطريق على المشاريع التي لا تجلب إلا الانقسام والعنف.