إعادة التفكير في علاقة الدين بالمشروع اليساري العربي
لم يغب سؤال علاقة الدين بالتحرر الاجتماعي عن الفكر العربي الحديث، لكنه يتجدد بقوة في لحظات الأزمات الكبرى، حين يعجز اليسار العربي عن تقديم أجوبة مقنعة لجمهوره. اليوم، ومع تعثر التجارب اليسارية في العالم العربي، وتراجع قدرتها على التعبئة الشعبية، يعود السؤال القديم-الجديد: هل يمكن لليسار أن يجد في الدين حليفًا بدل اعتباره خصمًا؟
هذا السؤال كان في صلب مشروع حسن حنفي الذي قدّم في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي مشروعه الشهير «اليسار الإسلامي»، داعيًا إلى إعادة قراءة التراث من منظور تحرري. بالنسبة لحنفي، لم يكن الدين أداة تخدير كما رآه كارل ماركس في سياق الكنيسة الإقطاعية الأوروبية، بل «قوة مادية في يد الجماهير» يمكن توظيفها لبناء مشروع للعدالة الاجتماعية والتحرر الوطني¹. وقد لخّص ذلك في شعاره: «محاربة الدين من أجل إحياء الدين»، أي تحرير الدين من الاستخدامات السلطوية التي كبّلته عبر التاريخ، ليعود إلى وظيفته الأصلية كأداة للتحرر والمقاومة.
أما خليل عبد الكريم، فقد اختار مسارًا آخر، إذ قدّم سلسلة كتب نقدية رائدة مثل الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية والإسلام بين الدولة الدينية والدولة المدنية، حيث ميّز بين البعد التحرري في التجربة الإسلامية الأولى وبين البعد السلطوي الذي ظهر مع تحوّل الإسلام إلى مؤسسة حكم². بالنسبة لعبد الكريم، فهم التاريخ شرط لفهم الحاضر، وتحرير الدين من سلطته السياسية يفتح المجال أمام إسلام مدني يواكب قيم الحرية والمساواة.
رغم أهمية هذه المشاريع، لم تتحول إلى تيار اجتماعي واسع، بل بقيت في نطاق النخبة المثقفة. ومع ذلك، تركت أثرًا على النقاش الفكري العربي، ويظهر اليوم أن استدعاء أطروحاتهما يتم بشكل غير مباشر في الدراسات الأكاديمية التي تبحث في علاقة الدين بالمجتمع. فهناك أبحاث حديثة تدرس دور الدين كفاعل حضاري في مواجهة التطرف³، وأخرى تتناول علاقة الشباب بالدين والنضال الاجتماعي⁴، ما يوحي بأن الحدود بين «الديني» و«العلماني» أصبحت أقل صرامة لدى الأجيال الجديدة.
مع ذلك، يستحيل استحضار مشروع «اليسار الإسلامي» من دون مراجعة نقدية. فحنفي اتُّهم بالمبالغة في التوفيقية وبالعجز عن تقديم آليات عملية لتحقيق رؤيته على أرض الواقع⁵. أما عبد الكريم، فرغم عمقه التاريخي، اتُّهم بالانزلاق نحو قراءة علمانية متطرفة تستبعد البعد الإيماني الذي لا يمكن شطبه من الوجدان الجماعي⁶. هذه الانتقادات تكشف الحاجة إلى تجاوز مجرد إعادة إنتاج الأطروحات القديمة، نحو صياغة مشروع تحرري جديد يوازن بين الروحاني والمادي، بين الهوية والانفتاح، وبين العدالة الاجتماعية والديمقراطية السياسية.
إن عودة النقاش حول علاقة الدين بالمشروع اليساري ليست مجرد حنين فكري إلى سبعينيات القرن الماضي، بل مؤشر على مأزق أعمق يعيشه الفكر العربي المعاصر: مأزق البحث عن نموذج تحرري أصيل، قادر على الجمع بين قيم العدالة والتحرر من جهة، والانتماء الثقافي والديني من جهة أخرى. فهل نحن أمام ولادة جديدة ليسار عربي متصالح مع الدين وقادر على إلهام حركة اجتماعية واسعة؟ أم أن ما نشهده مجرد إعادة تدوير لأطروحات فكرية لم تعد تملك القوة على تحويل التاريخ؟
مراجع مقترحة
1. ¹ حسن حنفي، اليسار الإسلامي، دار التنوير، بيروت، 1981.
2. ² خليل عبد الكريم، الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية، دار سينا للنشر، القاهرة، 1990؛ خليل عبد الكريم، الإسلام بين الدولة الدينية والدولة المدنية، سينا للنشر، 1993.
3. ³ محمد أركون، الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد، دار الساقي، بيروت، 1990.
4. ⁴ رشيد الحاحي، الدين والشباب: من التدين التقليدي إلى التدين الفردي، مجلة فكر ونقد، العدد 48، 2010.
5. ⁵ جورج طرابيشي، هرطقات: عن الديمقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية، دار الساقي، بيروت، 2006.
6. ⁶ عبد الوهاب المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، دار الشروق، القاهرة، 2002.