منتدى العمق

الصحافة بين الاستقلالية والرقابة.. قراءة في مذكرة المجلس الوطني لحقوق الإنسان

يأتي مشروع القانون رقم 26.25 المتعلق بإعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة في سياق دستوري وتشريعي وسياسي وحقوقي بالغ الأهمية، حيث يتقاطع فيه النص الوطني مع الالتزامات الدولية للمملكة المغربية في مجال حقوق الإنسان، وعلى رأسها حرية الفكر والتعبير وحرية الصحافة. ولعل المذكرة التي أصدرها المجلس الوطني لحقوق الإنسان بشأن هذا المشروع بتاريخ 16 شتنبر 2025، بناء على طلب رسمي من رئيس مجلس النواب مؤرخ في 16 يوليوز من السنة ذاتها، تشكل مرجعا أساسيا لفهم الملاحظات الجوهرية والرهانات الحقيقية التي يطرحها هذا التنظيم الجديد. فالمذكرة لا تقف عند حدود إبداء رأي شكلي، وإنما تتجاوز ذلك إلى صياغة رؤية حقوقية وقانونية متكاملة، تحرص على جعل النص التشريعي في انسجام مع الدستور المغربي، وخاصة الفصول 25 و27 و28 منه، ومع المعايير الدولية ذات الصلة، وعلى رأسها المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، فضلا عن الاجتهادات القضائية الدولية والتوصيات الأممية والإقليمية.

المذكرة تنطلق من بيان أسباب واضح ة، يربط الطلب التشريعي بالمرجعيات الدستورية وبالقانون المنظم للمجلس الوطني لحقوق الإنسان الذي يخول له صلاحية إبداء الرأي في مشاريع القوانين المرتبطة بالحقوق والحريات وهو تأكيد على أن المقاربة المعتمدة ليست تقنية بحتة، بل محكومة بإرادة حقوقية تهدف إلى تحصين حرية الصحافة من أي تدخل قبلي أو تضييق غير مشروع، انسجاما مع المقتضيات الدستورية التي تحظر الرقابة المسبقة وتكرس الحق في المعلومة، وتجعل من حرية الفكر والتعبير والصحافة حريات قائمة الذات لا يجوز تقييدها إلا بمقتضى قانون صريح وفي حدود مبادئ الشرعية والضرورة والتناسب .

من الناحية المرجعية، اعتمد المجلس الوطني لحقوق الإنسان منهجية دقيقة في إعداد مذكرته، حيث استند إلى نصوص دستورية صريحة، وإلى المعايير الدولية التي رسخت حماية حرية التعبير والصحافة، بدءا من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، مرورا بالعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، وانتهاء بالاجتهاد القضائي للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، إضافة إلى توصيات الأمم المتحدة ومقرريها الخاصين، والتجارب المقارنة سواء في أوروبا أو إفريقيا أو أمريكا، كما استحضر المجلس القانون الأوروبي لحرية الإعلام الصادر سنة 2024، باعتباره مرجعا معاصرا في تنظيم المهنة وضمان استقلالية المؤسسات الإعلامية كل ذلك يعكس أن المذكرة ليست قراءة تقنية ضيقة، بل مشروع تصور مؤسسي وحقوقي متكامل .

وتبعا لهذه المرجعيات، بلورت المذكرة خمسة مبادئ موجهة اعتبرتها أساسية في أي مشروع لإعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة :

مبدأ حرية التعبير، باعتباره الدعامة الجوهرية للنظام الديمقراطي، ليس فقط كحق فردي وإنما كشرط لبناء المجال العمومي وتداول المعرفة وضمان التعددية .
مبدأ الاستقلالية، الذي يجعل من استقلال هيئات التنظيم الذاتي شرطا لبقائها ومصداقيتها، ويحميها من أي تبعية للسلطة التنفيذية أو لمراكز النفوذ الاقتصادي .
مبدأ التعددية، الذي يفرض أن تكون البنية التمثيلية للهيئة متعددة من حيث الانتماء المهني والاجتماعي والثقافي، بما يضمن تمثيلية النساء، والفئات الهشة، والصحافة الرقمية المستقلة .
مبدأ التمثيلية، الذي يعطي للهيئة شرعية قراراتها وقبولها داخل الجسم الصحفي والمجتمع، من خلال معايير ديمقراطية شفافة للانتخاب والترشيح .
مبدأ الشفافية، الذي يعد شرطا لازما للمساءلة والثقة المجتمعية، ويتجسد في علنية القواعد والإجراءات ونشر القرارات والتقارير الدورية بشكل مفصل ومعلل .

أما فيما يتعلق بالخلاصات المستمدة من الدستور والتشريعات الوطنية، فقد توقفت المذكرة عند ثلاث نقاط محورية :

الفصل الخامس والعشرون من دستور 2011 الذي يؤسس لوحدة الحريات الفكرية والتعبيرية ويمنحها طابعا شموليا غير قابل للتجزئة .

الفصل السابع والعشرون الذي ينص على الحق في المعلومة باعتباره شرطا لازما لممارسة فعلية لحرية الصحافة، ويجعل من الدولة مسؤولة عن تيسير الوصول إلى المعلومة وتوفيرها في الوقت المناسب

الفصل الثامن العشرون من الدستور الذي يكرس حرية الصحافة ويحظر الرقابة القبلية، ويؤسس لمنطق يقوم على المسؤولية اللاحقة بدل المنع المسبق، بما يعزز الثقة في العمل الصحفي ويحمي استقلاليته .
على مستوى الخلاصات الإقليمية والدولية، تؤكد المذكرة أن المعايير الكونية والإقليمية تستوجب تمكين الصحافة من فضاء حر ومستقل، قائم على التعددية والشفافية والاستقلالية، وأن التجارب المقارنة أظهرت أن التنظيم الذاتي المهني هو النموذج الأكثر فعالية في ضمان التوازن بين الحرية والمسؤولية. وقد استحضرت المذكرة توصيات الاستعراض الدوري الشامل لسنة 2022، وتوصيات هيئة الإنصاف والمصالحة التي ربطت حرية التعبير بالمصالحة الوطنية، إضافة إلى الاجتهاد القضائي الأوروبي الذي شدد على أن الصحافة الحرة غير الخاضعة للرقابة تشكل حجر الزاوية في أي نظام ديمقراطي .
المذكرة خصصت جزءا هاما للملاحظات والتوصيات الخاصة بمشروع القانون رقم 26.25 المتعلق بإعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة.
من حيث الشكل
سجلت وجود إشكالات تتعلق بالغموض واللبس في بعض الصياغات، وخاصة فيما يرتبط بالأفعال التأديبية والعقوبات المقررة .
من حيث الموضوع
أكدت على ضرورة احترام مبدأ الشرعية في التجريم والعقاب، والتقيد بقاعدة التناسب بين الفعل والعقوبة، وعدم المساس بالحرية إلا في الحدود الدنيا الضرورية، كما دعت إلى مراجعة نمط انتخاب أعضاء المجلس الوطني للصحافة بما يضمن تمثيلية حقيقية وتعددية فعلية، وإلى إشراك المجتمع المدني في تقييم عمل المجلس، وإحداث آلية استعجالية للتدخل في حالات التجاوزات الجسيمة.

وعلى الصعيد المهني، دعت المذكرة إلى معالجة قضايا حساسة مثل القذف والتشهير وفق المعايير الدولية، ومناهضة خطاب الكراهية دون المساس بحرية الصحافة، إضافة إلى دعم الاستقلالية الاقتصادية للمقاولات الصحفية باعتبارها شرطا لتعزيز حرية التعبير، كما أوصت بوضع ميثاق أخلاقي للإشهار يرسخ مسؤولية المعلنين، وتكريس آليات شفافة ومستقلة لمراقبة سوق الإعلان تفاديا لأي ضغط اقتصادي على حرية التحرير.

تكشف قراءتنا شمولية لهذه المذكرة عن رغبة واضحة في بناء نموذج وطني متقدم لتنظيم المهنة، يستند إلى التنظيم الذاتي بدل الوصاية الرسمية، ويرتكز على المبادئ الدستورية والمعايير الدولية، ويأخذ بعين الاعتبار البعد الاقتصادي والاجتماعي للممارسة الصحفية. فالمذكرة لا تكتفي بالتحليل، بل تقدم تصورا متكاملا يرسم حدود تدخل المشرع ويوجه النقاش التشريعي نحو تعزيز الحرية بدل تقييدها.

وبذلك؛ يمكن القول إن هذه المذكرة تمثل أداة مرجعية وضاغطة على المشرع، تجعله أمام خيارين : إما الانحياز إلى منطق الضمانات الحقوقية والمؤسساتية التي توسع هامش الحرية وتحمي استقلالية الصحافة، أو الانزلاق إلى مقاربة تضييقية تعيد إنتاج الوصاية الرسمية وتفقد النص قيمته الدستورية والحقوقية. والاختيار الصائب، كما تؤكد المذكرة، هو الأول، باعتباره منسجما مع الدستور المغربي ومع الالتزامات الدولية للمملكة، ومؤسسا لبناء فضاء إعلامي حر ومستقل ومتعدد، قادر على الاضطلاع بدوره كاملا في تعزيز الديمقراطية وحماية الحقوق والحريات .