كنت أستعد بداية الشهر المقبل لزيارة الصين من أجل حضور معرضCanton Fair الدولي، الذي يُعد من أبرز المعارض الاقتصادية والتجارية في العالم، حيث يلتقي المصنعون والمستوردون والمستثمرون من مختلف القارات. وبحكم تجربتي السابقة وزياراتي السابقة للصين، كتبت مقالات عدة عن مدى التطور الذي حققته بكين على مستويات البنية التحتية، التكنولوجيا، وتنظيم الحياة الاقتصادية. كنت أرى فيها نموذج صاعد يعكس صورة القوة الاقتصادية العالمية.
غير أن هذه الصورة سرعان ما اصطدمت بواقع مغاير حين تعاملت مع السفارة الصينية بالرباط. فمنذ حوالي شهر وأنا أنتظر الرد على طلب التأشيرة الذي قدمته عبر المنصة الرسمية، دون أي جواب أو إشعار. هذا التأخر تسبب لي شخصيًا في خسارة مالية كبيرة بعدما ضاع مني ثمن تذكرة الطائرة، وأضعف من حماسي للمشاركة في معرض يُفترض أن يكون واجهة للصين في استقطاب الشركاء الاقتصاديين.
ولست وحدي في هذا المأزق. فقد عاينت عشرات الطلبة المغاربة وهم يذرفون الدموع أمام أسوار السفارة بعد أن فقدوا فرص الالتحاق بالجامعات الصينية نتيجة التأخر في معالجة ملفاتهم، كما رأيت تجارًا يُعبرون عن استيائهم بسبب تعطيل صفقاتهم وخسارتهم حجوزات طيران وإقامات فندقية. أما داخل القنصلية نفسها، فالمشهد أكثر قتامة: طوابير طويلة، سماسرة يعرضون “خدمات” مشبوهة، وأمن خاص يتعامل مع المرتفقين، وخصوصًا الطلبة، بنوع من الرعونة بدل تقديم الدعم والتوجيه. والأسوأ أن القنصل، حسب شهادات متطابقة، لا يحضر لمكتبه إلا لفترة وجيزة يوميا، تاركًا الناس يواجهون الانتظار القاتل بلا حلول.
الأغرب من ذلك أن المنصة الإلكترونية للسفارة ترفض في كثير من الأحيان الملفات بحجة أن الصورة غير مطابقة للمواصفات، رغم أن التأشيرة في الأصل لا تحتوي على صورة، وأن الصورة الرسمية التي تُعتمد هي تلك التي تُلتقط يوم إيداع الملف داخل السفارة. هذا التبرير غير المنطقي يتحول عمليا إلى وسيلة إضافية لتأجيل معالجة الطلبات، ويعكس غياب الجدية في التعامل مع مرتفقين يترتب على كل يوم تأخير في ملفاتهم خسائر مالية ودراسية كبيرة.
وما يزيد الطين بلة أن جميع أرقام الهاتف الخاصة بالسفارة لا تجيب، ورغم أنني أرسلت العديد من الرسائل الإلكترونية إلى العناوين الرسمية، لم يصلني أي رد. هذا الصمت المريب يفاقم من معاناة المرتفقين، ويكشف عن خلل خطير في أبسط قواعد التواصل الإداري والدبلوماسي.
غير أن ما يثير القلق أكثر هو سلبية وزارة الخارجية في التعامل مع هذا المأزق الذي يعيشه المواطنون. فبدل أن تتدخل عبر قنواتها الرسمية لفتح حوار مع الجانب الصيني أو على الأقل مواكبة مشاكل الطلبة والتجار، تظل الوزارة غائبة عن المشهد، تاركة المواطنين يواجهون مصيرهم وحدهم أمام أبواب السفارة. هذا الغياب يُضعف الثقة في مؤسسات الدولة، ويجعل المواطن يشعر أن حقوقه ومصالحه خارج حدود الوطن ليست أولوية لدى صناع القرار.
من زاوية أكاديمية، هذا الوضع يُظهر خللا واضحا في الحكامة القنصلية والدبلوماسية. فالصين التي تُسوق نفسها كقوة عالمية منفتحة على الشركاء الدوليين، لا يمكن أن تترك سفارتها في المغرب تُعطي صورة مناقضة تمامًا لذلك. إن أي ضعف في الخدمات القنصلية لا يضر فقط بالطلبة والتجار المغاربة، بل ينعكس مباشرة على صورة الصين ومصداقيتها، ويزرع الشك في جدية دعواتها إلى تعزيز التعاون الاقتصادي والثقافي.
لقد كتبت سابقًا عن الصين بإعجاب، لكن ما عايشته اليوم يجعلني أعيد النظر في تلك الصورة المثالية. فالقوة الاقتصادية لا تُقاس فقط بالمصانع والقطارات السريعة، بل أيضًا بمدى احترامها لشركائها وتعاملها الإنساني مع مواطني الدول الأخرى.
إن إصلاح هذه الوضعية مسؤولية مشتركة. الصين مطالبة بإعادة تنظيم عمل سفارتها بالرباط بشكل يليق بمكانتها الدولية، عبر تعزيز الموارد البشرية، اعتماد أنظمة رقمية أكثر فعالية، وضمان معاملة لائقة بالمرتفقين. كما أن وزارة الخارجية بدورها مدعوة إلى التدخل لحماية مصالح مواطنيها، لأن الأمر لم يعد يتعلق بحالات فردية، بل بمصالح وطنية مرتبطة بالتعليم والتجارة والاستثمار.
الصين بلد عظيم لا شك في ذلك، لكن عظمة الدول تُقاس أيضًا بتفاصيل صغيرة قد تكون في نظر مسؤوليها ثانوية، بينما هي عند شعوب أخرى أساس الثقة أو بداية فقدانها.