وجهة نظر

الاختيار الأطلسي للمغرب والبعد الجيوستراتيجي 

1. التوجه الإفريقي والدستور المغربي

يؤكد الدستور المغربي في التصدير على تلاحم وتنوع مقومات هوية المملكة المغربية الوطنية والترابية، والغنية بروافدها الإفريقية. كما دعا إلى تقوية علاقات التعاون والتضامن مع الشعوب والبلدان الإفريقية، ولا سيما مع بلدان الساحل وجنوب الصحراء، وتوسيع وتنويع علاقات الصداقة، والمبادلات الإنسانية والاقتصادية والعلمية والتقنية والثقافية مع كل بلدان العالم، وتقوية التعاون جنوب-جنوب.

أكد دستور 2011 أثناء حديثه عن مغاربة العالم في الفصل 16 على احترام القانون الدولي والقوانين الجاري بها العمل في بلدان الاستقبال. كما تعمل المملكة المغربية على تقوية مساهمتهم في تنمية وطنهم المغرب، وكذا على تمتين أواصر الصداقة والتعاون مع حكومات ومجتمعات البلدان المقيمة بها. كما تحرص على الحفاظ على الوشائج الإنسانية معهم، ولا سيما الثقافية منها، وتعمل على تنميتها وصيانة هويتهم الوطنية.

يتداول المجلس الوزاري حسب الفصل 49 من الدستور في التوجهات الاستراتيجية لسياسة الدولة. كما يوقع الملك على المعاهدات ويصادق عليها، غير أنه كما هو وارد في الفصل 55 من الدستوران يصادق على معاهدات السلم أو الاتحاد، أو التي تهم رسم الحدود، ومعاهدات التجارة، أو تلك التي تترتب عليها تكاليف تلزم مالية الدولة، أو يستلزم تطبيقها اتخاذ تدابير تشريعية، أو تتعلق بحقوق وحريات المواطنات والمواطنين، العامة والخاصة، إلا بعد الموافقة عليها بقانون. كما للملك أن يعرض على البرلمان كل معاهدة أو اتفاقية أخرى قبل المصادقة عليها. إذا كانت المقتضيات الدستورية قد أصلت للتوجه الإفريقي للمغرب فما هي الرؤية الملكية لهذا الاختيار؟

2. المؤسسة الملكية والتوجه الإفريقي

يحدد جلالة الملك “في رسالة موجهة إلى المشاركين في الدورة الرابعة لمنتدى الاستثمار الإفريقي المنعقد بمراكش بتاريخ 2023.11.08- على التحديات الاقتصادية بالقارة الإفريقية التي ضاعفت من حدتها توترات جيوسياسية تتجاوز نطاق حدودنا. إضافة إلى التغيرات المناخية، واللجوء إلى الاقتراض كمصدر أساسي لتمويل السياسات الوطنية الرامية إلى احتواء التأثيرات الناجمة عن الصدمات الخارجية. مما يطرح القدرة على التوفيق بين احتياجات التنمية الاقتصادية ومتطلبات التوازنات المالية والخارجية. كل هذا يحتم التعاون بين القطاعين العام والخاص.

أمام هذا الجلل دعا جلالته إلى إنشاء شبكات مندمجة للبنيات التحتية باعتبارها شرطا أساسيا لتحفيز خلق سلاسل قيمة على المستوى الإقليمي. هذه البنيات التحتية لها انعكاس على التنمية الاقتصادية والبشرية من خلال الإسهام في تيسير الوصول إلى الخدمات الصحية والتعليمية وفي تحفيز إنتاجية المقاولات الصغرى والمتوسطة. مشيرا جلالته إلى مشروع أنبوب الغاز الذي سيربط بين المغرب ونيجيريا، حيث سيؤمن لمجموع البلدان التي سيمر منها الأنبوب مصدرا يمكن الاعتماد عليه للتزود بالطاقة.

نقلت وكالة المغرب العربي للأنباء الصادرة يوم الثلاثاء 14 يونيو 2016 كلمة للسيد وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية يبرز فيها التوجه الإفريقي لسياسة جلالة الملك المتعدد الأبعاد والذي يستمد تميزه من الأواصر الجغرافية والروابط التاريخية والأسانيد العلمية والمسالك الروحية، والاشتراك بين المغرب وعدد من بلدان إفريقيا في الثوابت الدينية العقدية والمذهبية، خلال حفل تنصيب المجلس الأعلى لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة بفاس. مؤكدا على أن هذه المؤسسة ستنمو لخدمة الإسلام في إفريقيا، بأبعاده في السلم والتعبئة لقيم الخير والأخلاق.

لقد أكدت الباحثة كريمة الصديقي في تقريرها حول أطروحة “الدبلوماسية الملكية في إفريقيا في عهد الملك محمد السادس بتاريخ 20 فبراير 2025” على أن تميز اهتمام المغرب بإفريقيا بالواقعية، وبالرغبة في الانخراط في محيطه عبر الشراكة والتعاون مع الدول الإفريقية من أجل التنمية. هذا ما أكدته مشاركة العاهل المغربي في العديد من المؤتمرات وكذا الزيارات المتتالية إلى الكثير من الدول الإفريقية، وقد تمكن المغرب من الوقوف في وجه مختلف المناورات المشبوهة التي حاولت المساس بمطالبه المشروعة. برز هذا بقوة منذ عودته إلى الاتحاد الإفريقي سنة 2017.

لقد ركزت الباحثة في تحليلها على الأبعاد التالية: الروحية والدينية والإنسانية التضامنية، والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والابعاد التي تستهدف الاستقرار، ومحاربة الإرهاب ،والأمن والسلم.

أصدر السيد راجي جواد كتابا يحمل عنوان: المؤسسة الملكية والسياسية الخارجية للمغرب. الطبعة الأولى السنة 2022 عن المركز الديمقراطي العربي. ركز فيه المؤلف على السلطات التي يتمتع بها الملك في مسألة تدبير السياسة الخارجية من الناحية الدستورية باعتباره رئيسا للدولة. بذلك حسب المؤلف يبقى الملك الفاعل الأول في مجال صنع السياسة الخارجية المتفاعلة مع الدبلوماسية المغربية.

لقد اعتبر دستور 2011، راسما التوجهات الاستراتيجية الكبرى في السياسة الخارجية. سواء كانت ذا بعد جهوي أو دولي، وتكريسها على مستوى البناء الدستوري. متوجا هذا البحث بخلاصة مفادها أن تحقيق أهداف الاستراتيجية على المستوى الجهوي أو الدولي مرتبط بمدى دمقرطة مجال السياسة العمومية ومدى فعالية الجهاز الدبلوماسي.

لقد أصدرت الباحثة الفرح نعيمة بحثا حول المغرب وإفريقيا: التعاون الثنائي الاستراتيجي والإكراهات المطروحة في مجلة المعرفة للدراسات والأبحاث العدد الخامس عشر ماي 2024. مشيرة إلى شراكة جنوب -جنوب، والتكامل، والتضامن، ورابح-رابح، ومن أجل تحقيق هذه الغايات الاستراتيجية أشارت الباحثة إلى النقاط التالية: مرتكزات السياسة الخارجية المغربية تجاه إفريقيا من زاوية الدبلوماسية كأداة من أدوات تعزيز العلاقات المغربية الإفريقية، والتعاون الثنائي بين المغرب ودول إفريقيا جنوب الصحراء. المحور الثاني يهم التحديات السوسيو اقتصادية والإكراهات الجيوستراتيجية في علاقة المغرب بإفريقيا انطلاقا من مدخلين: الإكراهات الماكرو اقتصادية والسياسية العامة، والتنافس الدولي

والرهانات الجيوستراتيجية للمغرب في إفريقيا.

أختم هذا البحث بالخطاب التاريخي الذي ألقاه جلالة الملك بأديس أبابا أمام المشاركين في القمة 28 للاتحاد الإفريقي وذلك يوم 2017.01.31″ المملكة المغربية Maroc.ma» والذي اعتبر فيه عودة المغرب إلى إفريقيا عودة إلى البيت. “فإفريقيا قارتي، وهي أيضا بيتي” فالمغرب في حاجة إلى إفريقيا وإفريقيا في حاجة إلى المغرب. لأنه سيساهم مع أشقائه الأفارقة في بسط الاستقرار والهدوء، وتحقيق النمو والتقدم.

ركز الخطاب الملكي على تعاون جنوب-جنوب. داعيا إلى لم الشمل، وتحقيق مرحلة جديدة من الازدهار. والمستقبل كفيل بتزكية هذا الاعتزاز الطبيعي من طرف قارتنا الإفريقية. “لقد اختار المغرب سبيل التضامن والسلم والوحدة، وإننا نؤكد التزامنا من أجل تحقيق التنمية والرخاء للمواطن الإفريقي”. وأخيرا يؤكد جلالته على أن شعوب إفريقيا، تتوفر على الوسائل وعلى العبقرية، ونملك القدرة على العمل الجماعي من أجل تحقيق تطلعات شعوبنا”.

اعتماد على هذا النفس دعا جلالته إلى تجمع أطلسي كإضافة نوعية داخل القارة. فلماذا هذا الاختيار الأطلسي للمغرب في عالم يعرف تغييرا جيوستراتيجيا جديدا؟

3.الاختيار الأطلسي للمغرب

أطلق جلالة الملك سنة 2023 المبادرة الأطلسية، وهي مبادرة تهم إفريقيا أولا، ثم العلاقة التواصلية التي تتيحها ثانيا خاصة عندما أتيحت لدول الساحل الانضمام إلى هذا التجمع الذي يضم 23 دولة. بهدف خدمة التنمية الاقتصادية بناء على سلوك حضاري يركز على التضامن والتعاون. كل هذا يمهد لعلاقات استراتيجية مع دول وتجمعات عالمية تريد التعاون على الاستثمار الذي يعود على الجميع بالنفع.

وتعمل المبادرة على التعاون أمنيا وتنمويا ومواجهة التحديات بمقاربة شمولية. خاصة وأن المنطقة تعج بقلاقل إرهابية تدعمها بعض الجهات التي تنتعش داخل المجهول للأسف الشديد. وقد سجلت دول الساحل موافقتها للانضمام إلى المبادرة الأطلسية. هذا ما يساعد على فك العزلة على مجموعة من الدول التي تعاني من ضغوطات للأسف تسعى إلى زعزعة استقرار هذه البلدان.

إن الإعلان على المبادرة الأطلسية مؤشر على وفاء المغرب للخطاب الملكي الذي ألقي بأديس أبابا سنة 2017. إنها رؤية جيوستراتيجية تحرر دولا من العزلة المصنعة والمفبركة من قبل خصوم إفريقية. للإشارة فالمبادرة لا تزاحم أحدا وإنما هي مبادرة إضافية ونوعية وقد سبق للمغرب أن يلتحق بمجموعة غرب إفريقيا، إذن فهو مفتوح على جميع المبادرات.

لقد خصص المغرب مبلغ 13 مليار درهم لإنشاء الميناء الأطلسي بالداخلة لإعطاء منطق التبادل الإفريقي وغيره فرصة الاستفادة الجماعية وهذا من حسن نيته كما هو الشأن لمشروع أنبوب الغاز نيجيريا المغرب مرورا على حوال11 دولة وصولا إلى أوربا. يتم هذا عن طريق شراكة رابح-رابح وجنوب-جنوب. في إطار جدلية الأمن والاستقرار، واحترام سيادات الدول الإفريقية.

إنها مبادرة تكاملية بين الدول الإفريقية ويدها ممدودة لكل من آمن بالتعاون والتضامن الإفريقي، ويسعى إلى بناء مستقبلي واعد. يهم السياسة الإفريقية عامة، ومن صميم أجندة إفريقيا لسنة 2063، و2030 للأمد القريب. للإشارة فالساحل لا تحل مشاكله إلا برؤية متكاملة أمنيا واقتصاديا واجتماعيا، وثقافيا، وأمنيا، وحضاريا.

إن المبادرة الأطلسية تشق طريقها رغم التحديات السياسية والأمنية. خاصة دول الساحل التي تدعو إلى الإسراع بالمشروع، نحو مالي وبوركينا فاسو والنيجر. كما أصبحت هذه الدول رافضة لدول أوربا خاصة فرنسا من انفتاحها على المملكة والمغربية وروسيا التي تربطها بالمغرب علاقات جيدة. بذلك سيقوم المغرب بأدوار استراتيجية سواء على المستوى الإفريقي والأوربي. مما يؤيد هذه المبادرة الولايات المتحدة الأمريكية ودول الخليج وغيرها.

من تم يجب على الجميع العمل على تحضير البنية التحتية لهذا المشروع حتى يتشجع المستثمرين الراغبين في التعامل خاصة مع إفريقيا. لقد وقع المغرب مع موريتانيا اتفاقيات استراتيجية خاصة على مستوى الصيد البحري، والربط الكهربائي، مما يشجع على التعاون الطاقي. كما تم تشكيل فريق عمل وطني للتفكير والعمل المشترك من إنجاح المبادرة الأطلسية رغم التحديات.

4. استنتاجات ومخرجات:

-مساهمة المغرب في رسم خرائط حديثة للأبعاد الجيواستراتيجية خاصة بعد القلق الذي يعرفه العالم في أغلبية جغرافيته.

-العمل على تقاسم المغرب تجربته الرائدة في مجال الأمن والاستقرار سياسيا وعلى المستوى الديني بنشر فكر الوسطية والاعتدال.

-التعاون والتضامن على مستوى الاستفادة من الموارد الطبيعية والاستثمارات الاستراتيجية وبناء التنمية في أفق رابح-رابح والتعاون جنوب- جنوب.

-إعطاء نماذج تضامنية وتعاونية وتكاملية على مستوى الشراكات الاقتصادية التي تهم كل الدول المعنية بهذه المبادرة، وتشكيل كتلة قوية ومتناغمة للتعامل مع الآخر، في إطار التدبير الحر واحترام سيادات الدول.

-المشاركة الفعالة في القارة الإفريقية التي تعرف دينامية كبيرة وتعبيد الطريق للتحرر من التراكمات السلبية وفتح طريق الأمن والتنمية التي تعود على الجميع بالخير المتبادل.

-التغلب على الأزمات المالية والاجتهاد في فتح أفق مالي منسجم مع ما تزخر به الدول الإفريقية من موارد مهمة من الواجب ان يعقلن تدبيره وجلها في خدمة المشاريع الاستراتيجية.

-المبادرة الأطلسية ركيزة أساسية لإخراج شمال إفريقيا من الجمود إلى الحركية والدينامية.

-إحداث اندماج بين الدول والشعوب المعنية من أجل تحديد هوية متعارف عليها تساعد على الترافع الإقليمي والدولي من أجل العيش المشترك.

نخلص من هذه المقاربة إلى أن المبادرة الأطلسية وردت في سياق إقليمي ودولي يتسم باللامعنى واللايقين، لذلك حددت له غايات دقيقة وأهداف استراتيجية توافق عليها الجميع. بقدر ما يعرف المشروع تحديات وعراقيل فإنه رهان جيو استراتيجي وسياسي واقتصادي وثقافي وأمني كبير. لكن مهندسي هذه المبادرة عازمون على المضي في تحقيق هذا المشروع لأنه سيحقق توازنات داخل المنطقة، ويعزز التوجه المغربي لإفريقيا كما رسم ذلك جلالة الملك.