وجهة نظر

حين يتحول الحق إلى جريمة: بين الدستور والهراوات أي مغرب نريد؟

إصلاح قطاع الصحة والتعليم ومحاربة الفساد، تلك كانت أهم مطالب شباب Z في وقفتهم الاحتجاجية ليومي 27 و28 شتنبر 2025. مطالب تعالت بها أصوات كل القوى الحية في بلادنا على مدى السنوات الأربع الماضية، ولكنها مع الأسف كانت كل مرة تسقط في أذن صماء للحكومة. حكومة الأغلبية المتغولةالتي لم تنصت يوما لنبض الشارع المغربي الذي يئن تحت وطأة الزيادات اللامنتهية واللامسبوقة. مواطنون ومواطنات يعانون من البطالة التي لم يعرف المغرب لنسبتها مثيلا، يشتكون من تردي الخدمة بالمستشفى العمومي ومن تدني جودة التعليم العمومي، ومن تم لجوؤهم للقطاع الخاص، مجبرين لا عن اختيار، بما يشكل ذلك من عبئ يثقل كاهلهم بل يقسم ظهرهم.

كل يوم تطالعنا العشرات من الفيديوهات مأخوذة هنا وهناك لمواطنات ومواطنين يحتجون أمام أبواب المستشفيات، لإمرأة لا تجد لها سريرا بالمستشفى لتضع حملها بل الأدهى لأب لا يجد ما يؤدي به مصاريف الولادة للمستشفى العمومي ليخرج الأم ومولودها. أين هي التغطية الصحية التي تتبجح بها هذه الحكومة؟ أين نحن من تنزيل ورش الدولة الاجتماعية الذي جاء بتعليمات ملكية؟
في هذا السياق، يأتي خروج هؤلاء الشباب للشارع في وقفة أرادوها لإسماع صوتهم، وقفة سلمية، لا تمس بثوابت الأمة ومقدساتها، تبغي إصلاحا في ظل الملكية ولا تريد لاستقرار هذا البلد تزحزحا؟ فأي خطأ بل أي ذنب ارتكبوه؟

من المعلوم أن الحق في الاحتجاج السلمي وحرية التعبير دعامتين أساسيتين للنظام الديمقراطي، وهما مكفولتان بنص الدستور. حيث الفصل 25 ينص بوضوح على أن “حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها”. علاوة على ذلك، يكرس الفصل 29 من نفس الوثيقة حريات “الاجتماع والتجمهر والتظاهر السلمي” ويقر بأنها “مضمونة”. إن هذا التكريس الدستوري يجعل من خروج هؤلاء الشباب تعبيرا إيجابيا، سلميا وطبيعيا في انسجام تام مع الإطار الذي يتيحه دستور المملكة.  إذن لما المنع والإعتقال؟

إن التدخل الأمني الذي رافق احتجاجات شباب جيل  Z  والتي شهدتها مناطق متعددة في المغرب يومي 27 و28 شتنبر يمثل إشكالية قانونية وسياسية عميقة تستوجب التحليل في ضوء المبادئ الدستورية الراسخة. فهو يعيد طرح مسألة مدى الالتزام بالمسار الديمقراطي والحقوقي الذي اختاره المغرب بموجب دستور المملكة، كما يطرح مخاوف جادة بشأن تعميق أزمة الثقة، خاصة عندما يتعلق الأمر بفئة الشباب التي يفترض أن تكون المحرك للتحول الديمقراطي.

إن دوافع هذه الاحتجاجات الشبابية ليست مجرد دوافع سياسية ضيقة، بل هي نتاج الإحباط والغضب المشروع من واقع اجتماعي واقتصادي بات خانقاً. مطالب الشباب التي تتمحور حول الإصلاح الجذري لقطاعي الصحة والتعليم ومحاربة الفساد، تتصل بالجوهر الفلسفي للدولة الحديثة القائمة على العدالة الاجتماعية.  وبذلك، تكون هذه الحركة الشبابية قياسا لمدى تحقيق العدالة الاجتماعية في البلاد ومطالبة بتطبيق هذا المبدأ المنصوص عليه في ديباجة الدستور، بمعنى أن هذه الاحتجاجات هي أداة لتقييم مدى التزام الحكومة بتحقيق الأهداف التنموية لبلادنا. وللأسف، فإن فشل الحكومة في اتخاذ إجراءات ملموسة لمواجهة تفاقم البطالة وتدهور القدرة الشرائية وتدهور خدمات قطاعي التعليم والصحة هو الذي غذى هذا الاحتجاج المشروع الذي خرج بـكثافة من مختلف أطراف المغرب.

لقد شكلت المقاربة الأمنية التي واجهت بها السلطات احتجاجات جيلZ  صدمة حقيقية كما أثارت قلقاً عميقاً لدى كل غيور على المسار الديمقراطي لبلادنا. فالاعتقالات والاحتجازات المؤقتة، تمثل تضييقاً على الحريات وتشير إلى غلبة منطق الردع المسبق على منهج الاحتواء والحوار. ممارسات تعيد إلى الأذهان سلوكيات ومقاربات أمنية كنا نظن أنها ولَّت إلى غير رجعة في مغرب اليوم، مغرب دستور 2011. وهي مقاربة لا تحل المشكلة، بل تزيد من احتقان الأوضاع وتُعزز الشعور بالإحباط واليأس، خاصة لدى فئة الشباب. إن الرد الأمني العنيف هو ارتداد خطير عن المكتسبات الديمقراطية والحقوقية التي ناضل من أجلها المغاربة لعقود، هو ارتداد يتجاوز الاحتجاجات الشبابية ليشمل نطاق التضييق على حرية التعبير.

لقد أكدت الجهة الداعية للمظاهرات، وفقاً لبلاغاتها عبر منصات التواصل الاجتماعي، أن حركتها “سلمية” ، وهو ما ينسجم مع روح الفصل 29 من الدستور. هذا التمسك بالسلمية هو الذي يمنح الحركة شرعيتها الدستورية والأخلاقية، ويؤكد على أن الهدف ليس العبث بالنظام العام، بل المطالبة بالإصلاح ضمنه. وعلى خلاف أي محاولة لتأويل هذه  الحركة الشبابية كقوة تسعى إلى إحداث الفوضى في المجتمع أو النيل من الثوابت، فإن الهدف المعلن لها هو المطالبة بتحقيق التغيير والإصلاح في ظل وحدة الدولة والوطن وفي إطار مؤسساتي ثابت للدولة . إن الأمن والاستقرار الحقيقي هو الاستقرار الديمقراطي للوطن الذي يبدأ بتحقيق العدالة الاجتماعية وتوفير العيش الكريم للمواطنين .

إن خروج الشباب بهذه الكثافة رسالة واضحة بأن المنظومتين العموميتين للتعليم والصحة قد وصلتا إلى نقطة تردي غير مسبوقة. فالواقع المزري يعود إلى سياسة حكومية تُعطي الأسبقية للقطاع الخاص على حساب الخدمة العمومية المجانية والجيدة للجميع، وهو التوجه الذي يمثل تراجعاً عن دور الدولة المُنَمِّيوعن مبدأ صَوْن المرفق العمومي، الذي هو حق لكل المواطنين. إن خروجهم اليوم هو ناقوس خطر عملنا على دقه مرارا وتكرارا محذرين من الانزلاق نحو هذا الواقع الأليم، مشيرين إلى سلوك الحكومة المتغول والرافض لأي صوت معارض، منتقدين تعنتها وإصرارها على تجاهل مظاهر الاحتقان الاجتماعي المتصاعد، مؤكدين على أن الإفراط في الرضى عن الذات وخطاب التعالي وإنكار الواقع الصعب لن تزيد الأمر إلا تعقيدا. إن ما حدث اليوم مع شباب جيل Z ما هو إلا تجسيد لفشل هذه السياسات التي لم تضع المواطن في صلب اهتماماتها وهذا طبيعي لأن الحزب الذي يقود الحكومة هو حزب ليبرالي لا علاقة له بالدولة الاجتماعية التي يتغنى بها ولا بالمبادئ التي تقوم على أساسها.

إن الديمقراطية هي المدخل الأساسي لأي إصلاح ولا يمكن تحقيق التنمية المنشودة دون ضخ نفس ديمقراطي جديد وخلق انفراج كفيل بإعادة ثقة المواطنين في الفعل السياسي، بدءا بالإفراج الفوري عن جميع الشبابالمعتقلين والموقوفين على خلفية هذه الاحتجاجات. وهذا المطلب الحقوقي يمثل شرطاً أولياً لاستعادة الثقة وفتح أي باب للحوار.

وبموازاة ذلك، تدعو الحاجة الملحة الحكومة إلى التوقف عن اتباع سياسة “التجاهل والتغاضي” والانخراط في عملية إنصات حقيقية لانتظاراتالمواطنين، خصوصاً فئة الشباب، وإبداع الحلول العملية بدلا من الاختباء وراء المقاربة الأمنية التي لا تزيد الأوضاع إلا تفاقما. إن هذه التعبيرات الشعبية تمثل فرصة حقيقية لتصحيح المسار السياسي والاجتماعي.  فالأمن الحقيقي للوطن لا يُحصّن عبر ترهيب الأصوات المطالبة بالإصلاح، بل يتحقق بتحقيق العدالة الاجتماعية وتوفير العيش الكريم للمواطنين. ولذلك، يجب على الحكومة أن تفتح أوراش إصلاح “حقيقي وجريء” في قطاعي الصحة والتعليم. إصلاح حقيقي يبتعد عن “السياسات الترقيعية” التي تعمق الفوارق، كما أشار إليها جلالة الملك في خطابه الأخير، والتركيز بدلاً من ذلك على ضخ استثمارات فعلية وجذرية لضمان جودة الخدمة العمومية وتكافؤ الفرص للجميع، وكذا القطع معالسياسات الحكومية التي تُعطي الأسبقية للقطاع الخاص على حساب الخدمة العمومية، والعمل على صَوْنِ المرفق العمومي.

الإنصات، ثم الإنصات، ثم الإنصات، لا للذات، ولكن للمواطنات والمواطنين، لهؤلاء الشباب الذين خرجوا للشارع بشكل منظم ليعبروا عن واقع يؤرقهم وليطالبوا بإصلاحات حبا في بلدهم ورغبة منهم في النهوض بقطاعاته الحيوية، تعبيرا منهم عن تشبتهم بالعيش في أحضانه. المفروض أن تكون هذه الاحتجاجات إشارة إيجابية تلتقطها الدولة ونحن على بعد أشهر من الاستحقاقات التشريعية. هي مبادرة تبين أن هؤلاء الشباب مهتمون بما يجري في بلادهم على عكس ما يمكن تصوره من لامبالاتهم وعلينا الأخذ بيدهم لإعادة بناء جسور الثقة معهم ولجعلهم فاعلين في الإصلاح المنشود ومشاركين في بناء مغرب الغد.