وجهة نظر

المواطن المغربي يحتج على واقع “مستشفيات الموت”

رئيسة منظمة النساء الحركيات، خديجة الكور

يمثل قطاع الصحة أحد الركائز الأساسية لبناء دولة قوية ومستقرة، إذ أن قدرة الدولة على ضمان خدمات صحية متكافئة وفعالة و ذات جودة لكافة المواطنات والمواطنين هي المؤشر الذي تعكس مستوى التنمية الاجتماعية والاقتصادية، ويعزز الثقة بين المواطن والمؤسسات.

وفي المغرب، رغم تعدد السياسات والاستراتيحيات الوطنية وارتفاع الميزانيات المرتبطة بقطاع الصحة ،لا يزال المواطن يواجه تحديات حقيقية في الولوج إلى الخدمات الصحية خاصة في المستشفيات العمومية.

وقد شهدت عدة مدن في الأسابيع الأخيرة احتجاجات اجتماعية عبر من خلالها المواطن عن تدمره من الوضعية المزرية لبعض المستشفيات العمومية حيث يضطر المرضى للانتظار لساعات طويلة باقسام المستعجلات و تتم مطالبتهم بشراء كل مستلزمات الفحص و العلاج و يتظلمون من التعطل الدائم و المستمر لآليات الكشف و التشخيص و إجراء التحاليل ومن الإهمال و سوء المعاملة.

وتكشف عدة فيديوهات يتم تداولها عبر مواقع التواصل الاجتماعي عن تردي وضعية بناية المستشفيات العمومية و انتشار الأزبال و النفايات داخلها و عن سوء المعاملة و الإهمال.

و يستمر تدهور الصحة العمومية ببلادنا رغم المكانة التي حظيت بها في عدد كبير من الخطب الملكية التي أكدت أن ضمان الولوج المتكافئ للخدمات الصحية لكل المواطنين هو التزام وطني وأخلاقي، وأن تطوير المستشفيات العمومية وتعزيز الموارد البشرية الطبية وتحديث البنية التحتية الصحية ليس مجرد إجراءات تقنية، بل هو تعبير عن رؤية شاملة للدولة الاجتماعية و عن إرادة صادقة لتحقيق العدالة الصحية والتقليص من الفوارق بين المناطق الحضرية والقروية.

ورغم ما تضمنه دستور 2011 من مقتضيات حول حق المواطن في الصحة و الولوج العادل إلى الخدمات الصحية.

وقد أطلقت الحكومة المغربية على مدى سنوات عدة استراتيجيات وخطط وطنية في مجال الصحة، شملت تطوير المستشفيات، تحديث البنية التحتية، تحسين العرض الصحي في المناطق القروية، وتعزيز الموارد البشرية، وتوسيع التغطية الاجتماعية.

كما تضمن برنامج الحكومة الحالية (2021-2026) عدة التزامات في هذا المجال، منها: تعزيز القدرة الاستيعابية للمستشفيات العمومية، دعم تجهيزات الفحص والتشخيص، تطوير الموارد البشرية الطبية، وتحسين الولوج للخدمات الصحية في المناطق النائية، بالإضافة إلى الالتزام بتعميم التغطية الصحية .

وعرفت الميزانية العامة المخصصة لقطاع الصحة ارتفاعا مستمرا اذ تمثل حوالي 18% من الميزانية العامة للدولة، و تم الشروع في تنفيذ نظام التغطية الصحية الأساسية (AMO) . وقد بلغ عدد المستفيدين حوالي 15 مليون مواطن، مع الإشارة إلى أن بعض الفئات ما تزال خارج نطاق التغطية الكاملة. ويعتمد نظام AMO على الدفع المسبق واسترجاع التكاليف، إلا أن معدلات الاسترجاع تبقى منخفضة وتتسم بالتأخر، حيث يُغطى نحو 60% فقط من المصاريف الفعلية في المتوسط.

وفي إطار تحسين فعالية النظام الصحي وضمان توزيع عادل للموارد، اعتمدت الحكومة نموذجا جديدا للحكامة على المستوى الجهوي، يهدف إلى تمكين الجهات من التخطيط والمتابعة وإدارة الموارد بشكل مستقل. ويشمل هذا النموذج التفويض للسلطات الجهوية لاتخاذ القرارات المتعلقة بتوزيع الأطر الطبية، تجهيز المستشفيات، وبرامج الوقاية الصحية، مع تعزيز الرقابة المحلية لضمان جودة الخدمات وتقييم الأداء بشكل دوري.

و رغم كل الاستراتيجيات، والبرامج، والميزانيات المخصصة للصحة العمومية، تظل الوضعية الصحية العامة في المغرب متدنية، كما تشهد على ذلك مؤشرات ونتائج عدة تقارير دولية. فقد أظهر التقرير العالمي للصحة 2025 تراجع المغرب في مؤشرات الصحة العامة، حيث احتل المرتبة 123 عالميا من حيث جودة الخدمات الصحية، والمرتبة 118 فيما يخص التغطية الطبية الشاملة، والمرتبة 110 فيما يخص الموارد البشرية الصحية مقارنة بالدول ذات الدخل المتوسط. كما أبرز التقرير تزايد معدلات وفيات الأطفال والأمهات، وانتشار الأمراض المزمنة والمعدية، وضعف برامج الوقاية والتوعية الصحية.

وفي نفس السياق، أشار تقرير صادر عن البنك الدولي 2025 إلى أن المغرب يعاني من ضعف في الأداء المؤسسي للقطاع الصحي، وتفاوت كبير في جودة الخدمات بين المدن والمناطق القروية، وارتفاع تكاليف العلاج بالنسبة للفئات الضعيفة اقتصاديا، مع صعوبات في توزيع الموارد البشرية والتجهيزات الطبية بشكل متوازن.

ويظل قطاع الصحة العمومية يعاني من تحديات كبيرة على مستوى البنية التحتية والموارد البشرية و جودة الخدمات الصحية و نظام التغطية الصحية. فعلى مستوى الموارد البشرية، لا يتجاوز عدد الأطباء العاملين في القطاع العام 24 ألف طبيب، بمعدل طبيب لكل 1700 نسمة في المدن و طبيب لكل 5,000 نسمة أو أكثر في العالم القروي.. و لا يتعدى عدد الممرضين حوالي 34 ألف ممرض وممرضة مما يحد من القدرة الاستيعابية للمستشفيات العمومية.

ولا تتوفر العديد من القرى على مراكز صحية أو وحدات طبية مجهزة، مما يضطر السكان إلى قطع مسافات طويلة للحصول على الخدمات الصحية، ويؤثر ذلك بشكل مباشر على سرعة التشخيص والعلاج. وتظهر الإحصاءات أن ما يقارب من 40% من المراكز الصحية الأولية في المناطق القروية تفتقر إلى تجهيزات أساسية مثل مختبرات التحاليل، أجهزة الأشعة، وأدوات الإسعاف الأولي.

كما تظهر الوضعية الوبائية للسكان تزايدا في الأمراض المزمنة مثل السكري والضغط الدموي وأمراض القلب والشرايين، إلى جانب انتشار بعض الأمراض المعدية كالالتهابات التنفسية وفيروسات الكبد، خصوصا في المناطق التي تفتقر إلى برامج وقاية وتوعية صحية متكاملة.

وفي ظل هذا الوضع المتردي يعرف القطاع الصحي الخاص تطورا سريعا منذ عشر سنوات، حيث بلغ عدد المستشفيات والعيادات الخاصة حوالي 350 مؤسسة موزعة في أغلب المدن الكبرى، مع قدرة استيعابية تصل إلى أكثر من 15 ألف سرير. كما يقدر عدد الأطباء العاملين في القطاع الخاص بحوالي 12 ألف طبيب، إضافة إلى آلاف الممرضين والتقنيين، ما يعزز القدرة على تقديم خدمات صحية متنوعة ومتخصصة. ويستفيد القطاع الخاص من إمكانيات مالية كبيرة، حيث تُسدد الدولة وصناديق الضمان الاجتماعي مبالغ العلاج بانتظام، مما يوفر استمرارية في تشغيل المستشفيات والعيادات ويحفز المستثمرين على تطوير مشاريع جديدة.

وبطرح هذا النمو السريع عدة تساؤلات حول هجرة الاطباء العاملين بالمستشفيات العمومية نحو القطاع الخاص للاستفادة من ظروف عمل أفضل و تجهيزات حديثة و تحفيزات مالية.

إن ما يعيشه قطاع الصحة اليوم بالمغرب لم يعد يحتمل التجاهل أو التسويف، إذ لم يعد الأمر يتعلق فقط بضعف التجهيزات أو خصاص الموارد البشرية، بل بانهيار ثقة المواطن في المنظومة الصحية برمتها، عمومية كانت أو خاصة. وأمام تصاعد حدة الاحتجاج الاجتماعي، وارتفاع أصوات المواطنين التي تصف المستشفيات العمومية بـ”مستشفيات الموت”، فإن المسؤولية التاريخية والأخلاقية تفرض على المؤسسة التشريعية أن تتحرك لإحداث لجنة تقصي الحقائق تعنى بفتح تحقيق شامل في أوضاع القطاع الصحي بجميع مكوناته: المستشفيات العمومية، المصحات الخاصة، وصناديق التغطية الاجتماعية، وذلك من أجل تقييم موضوعي وشفاف، يحدد مكامن الخلل، ويرتب المسؤوليات ويضع الإصلاح على السكة الصحيحة بما يضمن للمغاربة حقهم الدستوري في الصحة والكرامة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *