يصعب الجزم أن ما شهدناه في نهاية الأسبوع الماضي من دعوات للاحتجاج بمبادرة من شباب يطلقون على أنفسهم “جيل Z”، يمثل عودة مباشرة لحركة 20 فبراير. فالأخيرة ارتبطت بسياق تاريخي خاص تميز بانفجار “الربيع العربي”، بما حمله من حماس جماعي وإحساس عارم بأن لحظة التغيير قد دقت، حيث تلاقت آنذاك المطالب السياسية الكبرى مع التعبئة الشبابية الواسعة وشعارات الحرية والكرامة والديمقراطية. أما اليوم، فالمشهد يبدو مختلفا نوعا ما، فلا موجة إقليمية جارفة ولا زخم إعلامي عابر للحدود.
لذلك فإن “جيل Z” لم تخرج من رحم حماس إقليمي ثوري، بل هي تعبير محلي مباشر عن تآكل شروط العيش الكريم، وعن انسداد الآفاق أمام فئات واسعة من الشباب الذين وجدوا أنفسهم خارج منطق الوعود التنموية والاندماج الاجتماعي. ومن هنا فإن شعاراتها ليست سياسية كبرى تتعلق بتغيير بنية الحكم أو إعادة صياغة العقد الاجتماعي، بل هي أقرب إلى صرخة جماعية ضد الاختناق الاقتصادي والاجتماعي وضد غلاء المعيشة وانعدام تكافؤ الفرص.
ومع ذلك، فإن القول بانفصال الحركتين بشكل كامل فيه الكثير من التبسيط. فاحتجاجات “جيل Z” وإن كانت قد ولدت في زمن آخر، وبخطاب مختلف، فإنها لا يمكن أن تفهم إلا كامتداد لإرث 20 فبراير، أو بالأحرى كصدى جديد لذاكرة لم تندثر. فكلاهما يعكسان في العمق استمرار أزمة الثقة بين الشباب والدولة، وتراكم الإحباط من ضعف الاستجابة الرسمية لمطالب الكرامة والعدالة الاجتماعية. فإذا كانت الحركة السابقة قد فتحت الباب أمام أسئلة الإصلاح السياسي والدستوري، فإن الحركة اللاحقة تعيد التذكير بأسئلة العدالة الاجتماعية والاقتصاد السياسي، وكأنها تقول إن الوعود التي لم تنجز تتحول بالضرورة إلى وقود لدورات احتجاجية جديدة، تختلف في أشكالها ومضامينها لكنها تتقاطع في الجوهر.
لقد انتهت تجربة 2011 إلى تراجع تدريجي بفعل مزيج من القبضة الأمنية وانقسامات مكوناتها الداخلية وصعوبة بلورة قيادة وبرنامج سياسي جامع، علاوة على التخوف من إصابة المغرب بعدوى المسار الدامي الذي آلت إليه مجريات الأحداث في باقي البلدان العربية. لكنها تركت وراءها أثرا عميقا، حيث زرعت في أذهان الشباب فكرة أن الشارع ليس حكرا على الدولة، بل يمكن أن يكون ملكا للمواطنين أيضا، وأن الهتاف الجماعي أداة شرعية لفرض الانتباه إلى قضاياهم. و”ذهنية الاحتجاج” هاته هي التي يبدو أنها تشكل اليوم الرأس المال الرمزي الذي تستثمره فيه حركة “جيل Z”، حتى وإن بدت بلا قيادة واضحة أو برنامج مفصل.
لا يقتصر وجه الشبه بين الحركتين على الطابع الشبابي للمبادرين، ولا على امتدادهما الجغرافي العابر للمدن والمناطق، بل إنهما تتقاطعان كذلك في الجوهر الاجتماعي لمطالبهما. هناك شعور عام بالغبن من غلاء المعيشة، وانسداد الآفاق أمام الأجيال الجديدة، وتراجع الثقة في الوسائط السياسية التقليدية، بل وتفكك “العقد الاجتماعي” غير المعلن الذي كان يربط المواطن بالدولة. الأخطر من ذلك أن الإحساس المتنامي وسط الشباب يتمثل في أن الدولة قدمت “استقالة ضمنية” من مهامها الأصلية، فلم تعد توفر الحماية من الغلاء ومن توحش لوبيات المصالح والفوضى التي يفرضها جشع بعض الفاعلين الاقتصاديين.
ما يثير الانتباه أكثر في هذا الذي يجري هو أن الدولة، منذ 2011، راهنت على استراتيجية بدت في ظاهرها ناجعة. أجرت تعديلا دستوريا استحضر عدد من المطالب التي كانت رائحة في سوق التداول السياسي، ونظمت انتخابات تشريعية حملت لأول مرة حزبا يمكن أن يعطي الانطباع بحصول التغيير، ثم أطلقت مشاريع اقتصادية واعدة كما احتضنت وتستعد لاحتضان تظاهرات رياضية ضخمة. وقد سوق كل ذلك باعتباره دليلا على استقرار المغرب وفرادته الإقليمية، في مقابل مشاهد الفوضى التي عرفتها بلدان عربية أخرى. لكن، بمرور الوقت، تبين أن هذا الخطاب ليس سوى مسكن سياسي واجتماعي، يجمل الواقع أكثر مما يعالجه. فالمشاريع الضخمة مهما بلغت من رمزية، والبطولات الرياضية مهما جذبت من اهتمام، لا تستطيع أن تخفي طوابير البطالة، ولا غلاء الأسعار، ولا ضعف الخدمات العمومية ولا التصنيفات المخجلة للمغرب في سلم الترتيب الدولي لمؤشرات التنمية والفساد. فما أن تهدأ الأضواء حتى يعود الواقع ليذكر الناس بمرارة يومياتهم.
من هنا نفهم لماذا عادت شرارة الاحتجاج لتطل من جديد، ولماذا تحول شعار “مبغيناش كأس العام الصحة أولا” إلى عنوان بارز لهذه التعبيرات الغاضبة. فالدولة التي واجهت مطالب 20 فبراير بخطاب الاستقرار والاستثناء، وأقدمت على تفعيل بعض المبادرات، لم تجرؤ على فتح ورش ديمقراطي حقيقي يوسع المشاركة ويعيد الاعتبار للمؤسسات الوسيطة. والنتيجة أن فئة واسعة من الشباب لم تعد ترى في الأحزاب السياسية ولا في النقابات سوى امتداد لنسق رسمي مغلق يفتقر إلى الاستقلالية والقدرة على تمثيل المواطنين. وحين تتآكل مصداقية هذه الوسائط وتسقط في أعين المجتمع، لا يبقى أمام الشارع إلا أن يستعيد موقعه كفضاء بديل للتعبير وملء الفراغ، في مواجهة مؤسسات لم تعد قادرة على أداء وظيفتها التمثيلية أو الوسائطية.
إن الأرضية الاجتماعية المأزومة تشكل وقودا قابلا للاشتعال عند أي احتكاك أو شرارة صغيرة، حيث تتحول المطالب الفردية إلى احتجاج جماعي، وينقلب الغضب الصامت إلى فعل ميداني يصعب احتواؤه بالخطاب الرسمي أو بمسكنات ظرفية. وما يضاعف خطورة الوضع أن الأجيال الجديدة لا تحمل ذاكرة الخوف نفسها التي ربما كبلت أجيالا سابقة، كما أنها تبدو أكثر تحررا من منطق الوسطاء التقليديين، وأكثر قدرة على استثمار وسائل التواصل الاجتماعي كمنصة بديلة للضغط، وكساحة عمومية موازية تفضح التناقض بين الخطاب الرسمي والواقع المعيش. بذلك يصبح أي إهمال للمطالب الاجتماعية المباشرة بمثابة مقامرة بمستقبل الاستقرار، ويكشف أن تراكم الاحتقان قد يجعل من كل هبة محلية أو ظرفية مدخلا لانفجار أشمل يتجاوز كل التوقعات.
احتجاجات “جيل Z” تضع الدولة أمام مفارقة صعبة. فهي تريد الحفاظ على صورة الاستقرار لتستمر في اجتذاب الاستثمارات وتنظيم التظاهرات الدولية، لكنها في الآن ذاته تجد نفسها مضطرة لمواجهة غضب اجتماعي متجدد يفضح هشاشة هذا الاستقرار. صحيح أن المغرب لا يعيش على إيقاع الفوضى كما في بلدان أخرى، ولكنه أيضا لا يعيش في طمأنينة حقيقية، بل في هدنة هشة تغطيها إنجازات رمزية لا تمس جذور المعضلات، وتبدو في لحظات الجد بأنها تقدم صورة خادعة لحقيقة الواقع المعاش.
الأكثر دلالة أن صور رجال الأمن وهم يعتقلون شبابا وشيوخا من ساحات الاحتجاج السلمي، وأحيانا من أمام ميكروفونات المواقع الإلكترونية، لا تعكس حال دولة واثقة من نفسها، بل توحي بسلطة مرتبكة، قلقة من مجرد أصوات مواطنين عزل. فهذه المشاهد تقدم النقيض العملي لخطاب الارتياح والثقة في الاستقرار، وتفضح المسافة بين ما يقال في المنابر الرسمية وما يعيشه الناس في واقعهم اليومي.
إن السؤال الجوهري اليوم ليس ما إذا كانت “جيل Z” نسخة ثانية من 20 فبراير، بل ما إذا كانت الدولة استوعبت الدرس. فالمقاربة الأمنية وحدها لم تنجح في الماضي، ولن تنجح في الحاضر. والرهان على المشاريع الكبرى والتسويق لخطاب الاستثناء قد ينجح لحظة، لكنه لن ينجح دوما. الجيل الجديد الذي يقود هذه الاحتجاجات أقل صبرا وأكثر جرأة وذكاء، ولا يكتفي بالشعارات المطمئنة. إنه يطالب بواقع ملموس، بفرص عمل، بكرامة حقيقية، وبمؤسسات تحترم وعودها.
وهنا تكمن المفارقة التي قد تحدد مستقبل البلاد. فإذا اختارت الدولة الاستمرار في سياسة الالتفاف والتهدئة عبر المشاريع الرمزية، فإنها تؤجل فقط لحظة الانفجار القادم. أما إذا قررت أن تصغي لهذه الأصوات وأن تنفتح على إصلاحات جدية تعيد الثقة للمجتمع، فقد تتحول هذه الاحتجاجات من خطر إلى فرصة، ومن تهديد إلى بداية مسار جديد من التوازن. فما يجري اليوم يعكس أن 20 فبراير لم تدفن أبدا. لقد تحولت إلى ذاكرة احتجاجية حية، تنتقل من جيل إلى آخر. و”جيل Z” ليست إلا آخر تجلياتها. قد تختلف الشعارات والوجوه والسياقات، لكن الجوهر واحد: الشارع لا ينسى، والوعي لا يموت، والدولة مهما أحكمت سيطرتها فإنها لن تستطيع طمس حقيقة أن الاستقرار الحقيقي لا يبنى على مسكنات، بل على عدالة اجتماعية ومؤسسات ديمقراطية قادرة على احتضان مطالب الناس. وهذا المسار لا يكفي للسير فيه مجرد تغيير حكومة بأخرى وحزب بآخر، كما حصل في 2011، لأن هذه اللعبة هي نفسها أصبحت مكشوفة بالنسبة لشباب أضحى ليس فقط يرفض أن يلتصق حراكه بالأحزاب السياسية بل يطرد زعمائها من تظاهراته.
*أستاذ القانون الدستوري وعلم السياسة (كلية الحقوق السويسي)