أجمع المشاركون في ندوة “الفن وسلطة التقنية” بمنتدى أصيلة، على أن التقنية تجاوزت كونها مجرد أداة لتصبح “سلطة موجهة” تفرض انقلابا في مرجعية الإبداع، ناقلة التركيز من الفنان إلى الجهاز، مؤكدين أن هذا التداخل يثير تساؤلات وجودية حول قدرة الفن على الحفاظ على جوهر روحه الإنسانية في زمن الذكاء الاصطناعي، ومحذّرين من مخاطر “سلعنة الصورة” وتزييفها للواقع.
“انقلاب في المرجعية”
أوضح شرف الدين ماجدولين، منسق الندوة، أن سؤال “الفن وسلطة التقنية” ينبع من كون التقنية أصبحت اليوم لا تشكل قاعدة للاجتهاد الإنساني وحسب، بل هي سلطة توجه التعبيرات وتحدد خيارات الفنانين. ولفت إلى أن تاريخ الفن هو بالأساس تاريخ التقنيات، مشيراً إلى “لحظات فارقة” أسست لتحولات كبرى، مثل نشأة المطبعة والتصوير الفوتوغرافي الذي ولد الانطباعية والتجريد.
لكن اليوم، يرى ماجدولين أننا مع الفنون الرقمية نعيش “انقلابا من مرجعية المُبدع إلى مرجعية الجهاز والتقنية”. هذا التحول تطلب شراكة بين الفنان والمهندس والمبرمج، مما خلق أسئلة مؤرقة حول ملكية التحفة ودور الفنان في الأعمال الرقمية التي يغيب فيها دوره التقليدي.
توسيع الحدود ودمقرطة الإبداع
أكد حاتم البطيوي، الأمين العام لمؤسسة منتدى أصيلة، أن التقنية أصبحت “فضاء إبداعيا مستقلا” يتيح للفنان المعاصر إمكانات غير مسبوقة، من الواقع الافتراضي إلى الفن القائم على البيانات.
ويرى البطيوي أن الثورة الرقمية ساهمت في “دمقرطة الإبداع الفني”، فلم يعد الفن حكرا على النخب أو المؤسسات، بل أصبح متاحا للجميع عبر المنصات الرقمية، مما عزز التعددية. والأهم أن التقنية غيّرت علاقة المتلقي بالعمل الفني، حيث انتقل من “المتفرّج السلبي إلى دور الفاعل المشارك في التجربة الفنية”.
قدرة العقل البشري على التطويع
قدّم علي سعيد حجازي، رئيس الإدارة المركزية لمراكز الفنون بوزارة الثقافة المصرية، سردا تاريخيا لعلاقة الفن بالتكنولوجيا، مؤكدا أن العملية الإبداعية تتطلب جهدا كبيرا في اكتساب المهارات التقنية وليس الموهبة الفطرية وحدها، مشيرا إلى أن المنظور الهندسي وآلة الطباعة أحدثا ثورة في رؤيتنا للعالم.
وخلص حجازي إلى أن الفنانين، بذكاء العقل المبدع، نجحوا دائما في تطويع التكنولوجيا لخدمة أفكارهم، مشددا على أن التاريخ سيعيد نفسه في عصر الذكاء الاصطناعي. فبالرغم من الشعور بالتهديد، فإن العقل البشري المبدع سيتطور ويطوع الذكاء الاصطناعي لـ “إنجاز أعمال لم يكن يتصورها”، وسيظل “العقل البشري هو الأساس في شحن مخيلة المبدع”.
“سلعنة الصورة”
تطرق جعفر عقيل، الباحث في الفوتوغرافيا، إلى التحولات التي أحدثها الذكاء الاصطناعي على الصورة، مشيراً إلى أن توظيف الخوارزميات خلق تحدياً حول ماهية العمل الفوتوغرافي، محذرا من خطورة “سلعنة الصورة” ومن أن الإيقاع السريع في النشر ساهم في إنتاج التضليل والشك في حقيقة الأشياء.
وقال عقيل إن الفوتوغرافيا كانت في السابق “توثيقا وتسجيلا لأثر حدث كان موجودا”، لكن مع الذكاء الاصطناعي، صارت الصورة “تُعطي للمشاهد انطباعا واقعيا لشيء غير موجود أصلا ولم يحدث أبدا”. هذه “معضلة الإنسان المعاصر”، الذي انتقل من زمنية المألوف إلى زمن “صورة الشيء” التي حلت محل الواقع.
من جهته، شدد يوسف مريمي، الباحث المغربي في الجماليات، على أن سلطة التقنية تواجه دائما بالحرية والمقاومة، معتبرا أن الفن هو “فعل مقاومة للتفاهة” والتصورات التقنوية المنساقة للدعاية، مؤكدا أن “لا سلطة تعلو على سلطة الفن، إذ ليس ثمّة سوى الحرية”.