منتدى العمق

بين المقاربة الأمنية والأمن المجتمعي

ما الذي يجعل من المقاربة الأمنية الحل الوحيد والأوحد لدى السلطات لأجل التعامل مع طوفان الاحتجاجات ببلادنا هذه الأيام؟ أليس لدى السلطات بديلا ومقاربة غيرها قد تكون اجتماعية سياسية أو غيرها لمعالجة هذا الامر الذي نراه هينا ولا يستحق كل هذا العناء من تجييش وحشد لعناصر الأمن الوطني؟ هل تعتقد السلطات المغربية أن شيئا ما قد يمس أو ينقص من هيبتها أو هيبة الوطن إذا ما تبنت المقاربة الاجتماعية، وهي التي تعلم علم اليقين أن كل المغاربة بدون استثناء لهم الإحترام والتقدير الكبيرين لما تقوم به المؤسسات لاسيما الأمنية والعسكرية من أدوار كبيرة في حماية الأرواح والممتلكات داخل وخارج البلد؟ ومن خلال متابعتنا لأحداث هذا الحراك الشبابي الأخير نود أن ننهي هذا الجدال الذي يؤرق المغاربة من كل الأجيال، من خلال الإجابة على استفهام يطال إشكالية لجوء السلطات الأمنية للعنف ضد أي سلوك احتجاجي، ليطل علينا السؤال الإشكالي هل السلطات الأمنية جزء من الحل أم جزء من المشكلة؟ استفهام بليغ ومعبر في حد ذاته ونحن نتابع تصاعد نيران احتجاجات الشباب في جيل GENZ212 طبعا بدون مزايدات سياسية لأننا كلنا وطنيون ونحب هذا البلد.

لكن بالمقابل ألم تدعو هذه المؤسسة وتروج في مناسبات شتى إلى رؤيتها الجديدة وفهمها الجديد لمصطلح الأمن بالمغرب؟ وهي التي تجعل أمن هذا البلد عملا تضامنيا وانخراطا كليا لكافة المغاربة، وأن المؤسسة الأمنية ليست وحدها من يتحمل هذه المسؤولية، بل هي مشتركة؟ ألم تنظم مؤسسة الامن الوطني ما يناهز ست دورات لأيام الأبواب المفتوحة لأجل التعريف والترويج لهذه الرؤية التي استبشر بها المغاربة خيرا، وآمنوا أنهم جزء من المنظومة الأمنية وأنهم فعلا حماة الوطن الحقيقيين؟ وأن المؤسسة الأمنية إنما هي فقط آلية تنظيمية وتنفيذية بما لها من آليات وموارد بشرية تحت تصرفها؟ لقد كان تنظيم هذه الأنشطة الإشعاعية في كل من المدن الدار البيضاء، فاس، طنجة، مراكش والجديدة بغرض بناء جسور التواصل مع الشرائح الاجتماعية في الكثير من المناسبات وإسقاط الصورة النمطية السلبية لرجل الأمن من المخيال الجماعي للمغاربة، وتعويضها بمفهوم مستحدث أطلق عليه اسم “الأمن المجتمعي”. وهذا أمر مستحب في كثير من الدول التي تتلمس طريقها نحو الديمقراطية، الحرية والعدالة الاجتماعية كبلدنا المغرب.

بكل صراحة لا أعتقد أن المؤسسات الأمنية في كل العالم وفي كل المجتمعات ترى بعين الرضى إلى أي مقاربة بديلة عن المقاربة الأمنية في معالجتها للنوازل ذات الطابع الأمني. لأن شغلها الأساسي والدائم ينحصر بكل بساطة في الجانب الأمني بكل تلاوينه وتفرعاته في زمن تقاس فيه قوة الدول بمدى قوة أمنها الداخلي واستقرارها. أما الحديث عن المقاربات الاجتماعية والأمن المجتمعي وغيرها من المفاهيم التي تضخها وسائل الإعلام في البيئة الأمنية ليست إلا شرودا إعلاميا تتبناه المؤسسة الأمنية استئناسا وشكلا من الأشكال التواصلية مع محيطها الشعبي والمجتمعي. فهي حين تنهج هذا النهج لا تفعل ذلك فقط لأجل إضفاء طابع الوضوح والشفافية على عملها فقط، بل أيضا لأجل تعبيرها عن احترامها للمواثيق الدولية المرتبطة بحقوق الانسان. كما أن هذه المؤسسة الأمنية التي جعلت نصب عينها أن ترقى بالعمل الأمني المجتمعي، أكيد أنها تأخذ على محمل الجد كل تغيير طارئ في المظاهر الاجتماعية الهدامة وتقابلها بالصد والمواجهة وإبطال مفعولها، بل وتصد كل انعطاف مشبوه في المسار التنموي للمسألة الثقافية واللغوية والهوياتية ببلادنا وتحيط بكل ما من شأنه أن يهدد أصالة المغاربة وثقافتهم وتاريخهم، أكيد أيضا أنها ترى بعين ثاقبة كل خطر يهدد الامن الروحي للمجتمع فتكشف دسائسه وتحصن تدين المغاربة ذلك التدين السني الوسطي الصافي. وبالتالي فعندما نتحدث عن المقاربة الأمنية في سلوك المؤسسة الأمنية بالمغرب فإنما نقصد به تلك العقيدة الأمنية الوطنية المرتبطة بثقافة المغرب وتاريخه ودينه ولغته التي تحصن أمن المغاربة بشكل كامل وليس جانبا دون آخر.

نلاحظ ونحن نتلمس طريقنا في هذه العتمة لنستبين سبُل ما يقع من حولنا من نكوس لهذه المؤسسة وضربها عرض الحائط كل ما صرفته من الزمن الوظيفي وهدر للمال العام، أن إمكانية تغيير صورتها وصورة رجل الأمن في المخيال الجماعي للمغاربة إمكانية مستبعدة على الأقل حاضرا أما مستقبلا فالعلم عند الله. لأن تغيير نظرة المغاربة نحوها يتأكد على الساحة وفي الميدان من خلال قدرة هذه المؤسسة الأمنية على الفهم والاستيعاب الصحيح، لاسيما في شأن دراسة الظاهرة الإحتجاجية ذات الصبغة المغربية وليس الأوروبية أو الامريكية أو الأسيوية كما حصل في النيبال وبنغلاديش وفي دول أخرى. لأن المغاربة لن يفكروا قطعا في حمل السلاح ضد بعضهم البعض فكيف في مواجهة السطات الامنية، وبالتالي فإن الاحتجاجات المغربية دائمة السلمية ومعلومة المآل. وما الشكل الاحتجاجي إلا جزء من ثقافة هذا الشعب.

قد تتغير أيضا نظرة المغاربة للمؤسسة الأمنية حين تنخرط في النسيج الاجتماعي المغربي بشكل سليم وهادئ كي ترفع من مستوى الوعي بالثوابت الوطنية لدى الناس ويحسوا أن هذه المؤسسة وطنية فعلا وتسعى إلى حماية وأمن هذه البلاد. فتصبح بذلك القوة الناعمة ذات التأثير الشديد والعميق في صناعة النموذج المغربي المتوازن، المنضبط، المحترم للقانون، المتفاعل مع محيطه بكامل الطواعية والإيجابية. ذلك النموذج المتعلم الباني. ولما لا تقبل حتى النموذج الشرس القادر على الاحتجاج بقوة ضد قوانين يرى أنها لا تطبق إلا ضده، ولا تخدم إلا مصالح فئة دون غيرها وإقصاء جهة دون أخرى، نعم قد يكون نموذجا ينتفض أو يتمرد فيتمسك برأيه حين يقابل بالتجاهل والازدراء، أو ربما يُسجن في أحيان كثيرة لمجرد أنه عبر عن رأيه فدَوّن أو تفاعل مع تدوينة بمواقع التواصل الاجتماعي، في حين شبكات الفساد الكبيرة آمنة في سربها ومطمئنة تتفشى في كل البلاد ولا تطالها يد الأمن والعدالة لاعتبارات لا قانونية.

أيها الناس، وحتى نكون واقعيين عندما تصلنا التقارير الأممية والمؤسسات المالية الدولية عن التنمية في بلادنا وعن حجم الدين الخارجي، وعن مؤشرات الفساد، فإن الصدمة تغير مزاج المغاربة بشكل كامل كما لو أنهم أمام أحد مشاهد الرعب. لقد “سجل المغرب 37 نقطة من أصل 100 في فهرس تصورات الفساد لعام 2024 الذي أعلنته منظمة الشفافية الدولية، مؤشر الفساد في المغرب بلغ متوسط ​​37.08 نقطة من عام 1998 حتى عام 2024، وقد سجل أعلى مستوى على الإطلاق بلغ 47.00 نقطة في عام 2000 وأدنى مستوى قياسي بلغ 32.00 نقطة في عام 2004”. وبالواضح نجد أكثر من 2 مليون مغربي يعيشون تحت خط الفقر، و5 ملايين أسرة مغربية في وضعية هشاشة اقتصادية تنذر بالعوز، ونجد أيضا 4.3 ملايين من أبناء هذا البلد شباب وشابات من جيلZ وغيرها خارج سوق الشغل والتعليم والتكوين، بطالة تتجاوز 35% بين من هم بين 15 و24 سنة، وأكثر من 25% بطالة في صفوف حاملي الشهادات.

إننا يا سادتي أمام حقيقة جيل معذب يحاول إحداث توازن بين سرعتين مختلفتين تحدث عنهما ملك البلاد في خطابه الأخير. فسرعة الرقمنة التي أصبحت جزءا من حياة هذا الجيل يتفاعل معها لأنه انخرط فيها بالإيجاب وتبناها وسرعة أخرى بئيسة راكدة عقيمة تُسجل عن المؤسسات الإدارية والأجهزة العقيمة والتي لا تنتج إلا عنفا لتستقبل هي بدورها عنفا مضادا وفقا للقواعد الفزيائية المعلومة.

إننا يا سادتي أمام شباب مهدد بشكل حقيقي ليس فقط بسبب التهميش الإداري والمؤسساتي الذي يطاله من طرف حكومة هذا البلد وإنما أيضا بسبب البيئة السياسية التافهة التي تنتج الغباء والسطحية من حوله ما من شأنه أن يشكل له انزلاقا نحو مسارات خطيرة الكل يعلم شكلها ومضمونها. فأمام هذه الدغمائية والعنف اللامادي القاتل، يحاط هذا الجيل أيضا بعنف مادي غير مبرر يطاله حينما يحتج سلميا مطالبا بخدمة اجتماعية بسيطة والدولة قادرة على توفيرها دون عناء، لكن عنادها السياسي يمنعها. هنا تتحول المؤسسة الأمنية إلى جزء من المشكلة حين تهدر الكرامة الإنسانية لهذه الفئة من الشباب الواعد.

ختاما، لا أعتقد أن من يتكلم اليوم في خضم الاحداث التي يعيشها المغرب عن جدوى المقاربة الأمنية أو يبرر لها ما لا يبرر في تبني بليد لهكذا أسلوب في التعامل مع الجيل الجديد من الشباب، ولا أعتقد أن وجوب الحديث عن المقاربة الحوارية والتواصلية مع الشباب لاسيما جيل z، بدعا من القول.