في المغرب، كلّ شيء يبدأ بالصدفة وينتهي بالتنسيق. فجيل Z الذي خرج إلى الشارع يصرخ ضد الغلاء والبطالة و”الحكرة”، لم يكن بحاجة إلى بيانات حزبية كي يمنحه الشرعية، لأن شرعيته ولدت من رحم المعاناة اليومية، ومن ركام الإحباط الذي تراكم جيلاً بعد جيل.
لكن ما إن دوّى صدى الاحتجاجات في المدن حتى سارعت قوى المعارضة والممانعة إلى سباق من نوع آخر: سباق البيانات.
في أسبوع واحد، أصدر النهج الديمقراطي العمالي والعدل والإحسان وفيدرالية اليسار والحزب الاشتراكي الموحد بيانات متشابهة في الشكل، مختلفة في النية. الجميع ضد القمع، والجميع مع حق الشباب في التعبير، لكن بين السطور يسكن الشيطان السياسي.
فبين من يرى في الحراك فرصة لاستعادة الشرعية، ومن يراه خطرًا على التوازنات الدقيقة، ومن يحاول ركوب الموجة لتسخين عضلات انتخابية نائمة، ضاعت الحقيقة: أن جيل Z خرج لأنه لم يعد يثق في أحد.
أغرب ما في المشهد أن التنسيق الذي وُلد لدعم الحراك، بدأ بنفس المرض الذي أصاب المشهد السياسي المغربي منذ عقود: الإقصاء.
فجماعة العدل والإحسان، التي كانت رقماً صعباً في أي حراك اجتماعي بزخمها الشعبي وقوة موقفها السياسي وانضباطها التنظيمي، تم اقصاؤها من المشاورات بحجة “الاختلاف المرجعي”. وكأن الشارع يطلب بطاقة حزبية قبل أن يهتف!
أما المفارقة الثانية، فهي أن التنسيق ضمّ في صفوفه من يؤمن بالمشاركة الانتخابية سبيلاً للتغيير، ومن يرفضها جملة وتفصيلاً. فكيف يجتمع في خندق واحد من يرى في الانتخابات أفقًا، ومن يراها مجرد مسرحية؟
في العمق، ما جرى ليس سوى صراع خفي على تمثيل الغضب. كل طرف يريد أن يقول: “هؤلاء الشباب خرجوا بإلهامٍ منا”، بينما الشباب أنفسهم لا يتابعون هذه البيانات إلا عرضًا، بين مقطع تيك توك وآخر. وعل حد تعبير الشاعر:
وكل يدعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر له بذاك…
إذا اشتبكت دموعٌ في خدودٍ تبين من بكى ممن تباكى…
جيل Z لا ينتمي إلى اليسار ولا إلى الإسلاميين، ولا حتى إلى الحركات الأفقية القديمة. إنه جيل اللاانتماء واللاوسيط. خرج بلا إذن، وسيعود بلا توجيه، وهذا ما يخيف الجميع.
أما من يرى في التنسيق محاولة “مدفوعة” من المخزن للالتفاف على الحراك، فربما لا يخطئ تمامًا.
فالدولة في المغرب تتقن لعبة “التحكم الناعم”: تترك الغضب ينفجر، ثم تبحث عن ناطق رسمي باسمه من داخل المعارضة لتعيده إلى بيت الطاعة عبر التهدئة والتفاوض.
لكن هذه المرة، يبدو أن اللعبة خرجت عن السيطرة، لأن الفاعل الجديد — جيل Z — لا يتكلم لغة البلاغات، ولا يقرأ الصحف، ولا يصبر على الخطابات الطويلة.
جيل وُلد في عالم سريع، لا يؤمن بالانتظار، ولا بالحلول الوسطى.
لذلك، فإن كل محاولة لاحتوائه أو الركوب على ظهره ستفشل، ما لم يُفتح النقاش الحقيقي حول العدالة الاجتماعية، وتوزيع الثروة، وكرامة الإنسان.
أما ما عدا ذلك، فسيظل مجرد صخب فوق الرماد.
ربما لم يدرك من في المكاتب المكيفة أن جيل Z ليس تمرّدًا عابرًا، بل هو مرآة لجيلٍ كُسرت أحلامه على أرصفة الانتظار. جيلٌ يريد أن يعيش ببساطة، أن يحلم بلا خوف، وأن يصرخ دون أن يُتّهم.
قد يُخمد الشارع يومًا، وقد تُطوى اللافتات، لكن الأسئلة لن تنام: من يملك هذا الوطن؟ من يستحق أن يتكلم باسمه؟
الذين يتنازعون على تمثيل الغضب نسوا أن الغضب لا يُمثَّل، بل يُفهم. وأن الشباب لا يحتاجون من يقودهم، بل من يسمعهم.
وإلى أن يحصل ذلك، سيبقى المغرب يعيش على إيقاع جيلٍ جديد لا يطلب إذنًا ليتنفس، ولا ينتظر أحدًا ليكتب له بيانه.