في سياق بناء الدولة ما بعد الاستعمار، تتقاطع تجربتا هواري بومدين في الجزائر والشيخ زايد بن سلطان آل نهيان في الإمارات، لتشكّلا نموذجين متباينين في إدارة الثروة البترولية، وتحديد ملامح المشروع الوطني. هذا التباين لا يقتصر على الخيارات الاقتصادية، بل يمتد إلى طبيعة الرؤية السياسية، ومنطق السلطة، ومفهوم التنمية ذاته، بين من اختار الزعامة الرمزية، ومن فضّل البناء الوظيفي.
منذ توليه الحكم بعد حرب تحرير مدمّرة، سعى بومدين إلى تأسيس دولة ذات سيادة اقتصادية، عبر التصنيع الثقيل وتأميم المحروقات، مستندًا إلى تركيبة أيديولوجية ثلاثية: الاشتراكية كأداة توزيع داخلي، القومية العربية كإطار للشرعية الإقليمية، والإسلام كمرجعية رمزية لتحييد المعارضة الدينية. لكن هذه التركيبة لم تكن مجرد خطاب، بل تحوّلت إلى آلية حكم، حيث استُخدم الخوف من التآمر الخارجي كاستراتيجية لإغلاق المجال السياسي، وتحويل الدولة إلى حصن منيع ضد أعداء مفترضين.
ولم يكن هذا العداء الخارجي مجرد رد فعل ظرفي، بل جزءًا من عقيدة سلطوية توسعية، تقاطعت مع المشروع الناصري في عدائه للأنظمة الملكية. فقد شكّل بومدين وعبد الناصر محورًا سياسيًا يسعى إلى فرض النموذج الجمهوري الثوري على المنطقة، معتبرين الملكيات العربية نقيضًا للتحرر، وخصمًا أيديولوجيًا يجب عزله أو إسقاطه. هذا العداء لم يُترجم فقط في الخطاب، بل في دعم الحركات المناهضة للملكية، وخلق معارضات موازية تحت غطاء “الجبهات التحررية”، وتوظيف البروباغاندا لتعبئة الداخل وتبرير التمركز السلطوي.
في المقابل، تولى زايد قيادة اتحاد هشّ من مشيخات متفرقة، فكان التحدي الأكبر هو بناء دولة حديثة، وتشكيل هوية وطنية جامعة. لم يعتمد على الشعارات الكبرى، بل على هندسة تنموية تبدأ من الإنسان، وتُراكم الإنجازات عبر التعليم، الصحة، والبنية التحتية. لم يسعَ إلى الزعامة الإقليمية، بل إلى الاستقرار الداخلي، متجنبًا الانخراط في صراعات أيديولوجية أو مشاريع توسعية.
ولم تقتصر رؤية الشيخ زايد على الداخل، بل امتدت إلى المجال العربي والدولي عبر ما يمكن تسميته بـ”دبلوماسية الخير”. فقد تبنّى نهجًا مسالمًا، وسعى إلى دعم الدول العربية ماديًا ومعنويًا، خاصة في لحظات الأزمات. تجسّد ذلك في تمويل المستشفيات، وإنشاء المدارس، وتقديم الهبات المالية، دون اشتراطات سياسية أو أيديولوجية. وبينما انخرط بومدين في مشروع زعامة مؤدلجة، اختار زايد طريق السلم والمساعدة، مؤمنًا بأن بناء الإنسان لا يقتصر على حدود الدولة، بل يشمل الأمة بأسرها.
من منظور غرامشي، يمكن اعتبار بومدين نموذجًا للسلطة التي تُنتج خطابًا تعبويًا يُعيد إنتاج الشرعية عبر المثقف الرسمي، في حين يُقارب زايد نموذج المثقف العضوي الذي يُترجم الرؤية إلى مؤسسات وظيفية. كما أن مفهوم “الكتلة التاريخية”، الذي يشير إلى تحالف طبقي وثقافي قادر على تحقيق الهيمنة الأخلاقية، يبدو غائبًا في الحالة الجزائرية، حيث طغى منطق الدولة الأمنية، بينما يُمكن تلمّس ملامحه في النموذج الإماراتي، رغم محدودية المشاركة السياسية.
أما عبد الله العروي، فيُحذّر من اختزال التنمية في الشعارات، ويرى أن التغيير لا يتم إلا عبر فهم منطق التاريخ وتجاوز البنى التقليدية. لكن النموذج البومديني، رغم طموحه التحرري، سقط في فخ التمركز السلطوي، حيث تحوّلت الثروة إلى ريع سياسي، والمؤسسات إلى أدوات للهيمنة، والطوابير اليومية إلى مرآة لفشل الرؤية. في المقابل، استطاع النموذج الزايدي أن يُحوّل المورد إلى أداة تنمية، دون أن يُفرّغ الدولة من مضمونها الاجتماعي، وإن ظلّ بعيدًا عن بناء ديمقراطية تشاركية حقيقية.
في راهن اللحظة، وبين ما يعيشه المواطن الجزائري من محنة يومية للحصول على ضروريات العيش، وما ينعم به المواطن الإماراتي من خدمات متاحة ورغد نسبي، تتجلى الفوارق البنيوية بين الرؤية التي تُراكم الإنجاز، وتلك التي تُعيد إنتاج الخطاب. فهل يكفي امتلاك المورد؟ أم أن النهضة الحقيقية تبدأ من سؤال الرؤية، ومن قدرة الدولة على احترام الإنسان، لا تعبئته؟
ربما يكمن الجواب في قدرة الأنظمة على تجاوز منطق الزعامة الرمزية، نحو بناء مشروع جماعي يُعيد تعريف السيادة، لا كاحتكار للسلطة، بل كقدرة على تمكين المواطن، وتحقيق التوازن بين التنمية والحرية. فهل نملك اليوم الإرادة والخيال السياسي لإعادة بعث هذا النموذج في زمن التصدعات؟