وجهة نظر

السلام الناقص… أفضل من الحرب العادلة

في نيويورك، وأثناء أشغال اللجنة الرابعة التابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة، برز أبناء الصحراء المغربية بمختلف توجهاتهم وانتماءاتهم في لوحة ديبلوماسية راقية جسّدت الصورة الحقيقية لصحراء متشبثة بوحدتها ومؤمنة بخيار السلم والواقعية. فقد شارك المنتخبون والبرلمانيون والبرلمانيات، والأطر والكفاءات الصحراوية، ورؤساء الجماعات الحضرية والقروية، إلى جانب ممثلي المجتمع المدني وممثلي الحركة المعارضة للبوليساريو “صحراويون من أجل السلام”، في هذا المحفل الأممي بصوت واحد، يجمع بين الاستقلالية في الموقف والموضوعية في الطرح، مدافعين ومنافحين عن حق الصحراويين في العيش الكريم داخل وطن آمن ومستقر. هذا الحضور المتنوع والمتكامل شكّل دليلاً على النضج السياسي والديبلوماسي الذي بات يميز أبناء أقاليم الصحراء الغربية المغربية، وقدرتهم على التعبير عن قناعاتهم بكل حرية وتجرد ومسؤولية.

وفي هذا السياق، جاءت مداخلة السكرتير الأول لحركة صحراويون من أجل السلام، السيد الحاج أحمد باريكلى، لتختزل بعمق فلسفة هذا الحراك الوحدوي الواقعي الراقي حين قال عبارته البليغة: “السلام الناقص… أفضل من الحرب العادلة”، جملة قصيرة لكنها محملة بدلالات كبيرة، تلخص فكر الواقعية السياسية والابتعاد عن أوهام الصدام والمزايدات. فهي تعبير عن وعي جماعي ناضج يدرك أن السلم، ولو كان ناقصاً، يفتح أبواب الأمل والبناء، في حين أن الحرب، مهما ادّعت العدالة، لا تخلّف سوى الدمار والانقسام.

لقد عبّر هذا الموقف الشجاع عن التحول العميق في الوعي السياسي الصحراوي، وعن ميلاد صوت جديد من رحم الميدان لا من مكاتب المخابرات، صوت يرفض الاصطفاف الأعمى، ويتحدث باسم الحقيقة والمصلحة العليا للإنسان الصحراوي قبل كل شيء. فصوت أبناء الصحراء اليوم لم يعد مجرد تكرار لخطاب رسمي أو معارض، بل أصبح موقفاً وطنياً حراً، أصيلاً ومتجذراً في الوعي الجماعي، يعبّر عن إرادة مستقلة لا تُلقَّن من الخارج، بل تنبع من إيمان راسخ بعدالة القضية ووحدة المصير المشترك في إطار وطن جامع يسع الجميع.

لقد كانت مشاركتهم نوعية بكل المقاييس، فمداخلاتهم حملت نَفَساً جديداً ومضموناً صادقاً، ووجوهاً مشرقة تعكس الثقة بالنفس والانتماء للوطن الواحد. دخلوا القاعة الأممية بأناقة ظاهرة وفكر نظيف وانسجام متوازن، فبدوا في عيون الحضور مثل الصورة الحديثة للمواطن الصحراوي الوحدوي: متزن، مثقف، ومتشبع بروح المسؤولية. وعلى النقيض تماماً، كان الطرف الآخر يعيش شروداً ذهنياً واضحاً، يتلو نصوصاً لا يؤمن بها، يكرر ما يُملى عليه من وراء الستار، إذ تحركه مخابرات الجزائر كما تحرك خيوط دمى فقدت إرادتها، لا تملك قراراً ولا قناعة سوى تلك التي تُصاغ في مكاتب قصر المرادية.

هذا التناقض الصارخ بين خطاب وطني أصيل ينبع من الأرض والواقع، وخطاب مصطنع يتغذى على الوهم والمال والارتهان، جعل اللجنة الأممية تخرج بانطباع واضح: هناك من يتحدث باسم الحق، وهناك من يتحدث باسم الأوامر. لقد بعثر الصحراويون المغاربة وغيرهم من المنصفين أوراق خصوم الوحدة الترابية، وجعلوا مداخلاتهم هشيماً تذروه الرياح. أمام حجة صادقة ومنطق واقعي، سقط خطاب الادعاء والتشكيك. لم تعد الرواية الانفصالية تقنع أحداً، لا في الأمم المتحدة ولا في عقول المتتبعين، لأن الحقيقة ببساطة تقول إن من يعيش في أمن وأمان وكرامة داخل وطنه لا يمكن أن يختار الوهم بديلاً عن الواقع.

ومما زاد من تأثير هذا الحضور أن السيد الحاج أحمد بريكلى، السكرتير الأول لحركة صحراويون من أجل السلام، كما ذكرنا، حين ختم كلمته بعبارة لخصت الموقف الإنساني والسياسي بعمق حين قال: “السلام الناقص… أفضل من الحرب العادلة.” كانت جملته كفيلة بأن تختصر عقوداً من الجدل، فهي لا تعني التنازل عن الحقوق، بل ترجمة لعقلانية مغربية تدرك أن الحل الواقعي والعادل في إطار الحكم الذاتي هو الطريق الأنجع نحو سلام دائم يضمن الكرامة والازدهار لكل أبناء الصحراء. إنها فلسفة تقوم على الواقعية السياسية لا على الشعارات الفارغة، على بناء المستقبل لا على اجترار الماضي.

جاء هذا الحراك الصحراوي الأصيل في نيويورك متزامناً مع تحولات كبرى تشهدها قضيتنا الوطنية، إذ تعززت الشرعية الميدانية بفتح عشرات القنصليات في مدينتي العيون والداخلة، وهو اعتراف دولي متزايد بمغربية الصحراء وبمشروع الحكم الذاتي كحل وحيد وواقعي. كما تزامنت هذه الدينامية الدبلوماسية مع استعداد المملكة لفتح معبر بير أم كرين الحدودي، الذي سيشكل جسراً اقتصادياً وإنسانياً بين المغرب وموريتانيا وبلدان غرب وشمال مالي، ويعزز التكامل الإقليمي ويمنح نفساً جديداً للتنمية المشتركة في منطقة الساحل.

ولا يمكن إغفال الأثر الاستراتيجي لميناء الداخلة الأطلسي الذي تشيده المملكة، والذي سيفتح آفاقاً واسعة أمام التجارة الإفريقية ويكسر الحصار الاقتصادي المفروض على بعض دول غرب إفريقيا التي لا تطل على البحر. فبين مشاريع عملاقة على الأرض، ودبلوماسية هادئة وفاعلة في المحافل الدولية، تتجسد رؤية المملكة في أن التنمية هي أقوى رد على دعاة الانفصال، وأن الازدهار المشترك هو السبيل الأنجع لبناء الثقة وترسيخ السلم الإقليمي.

إن ما عبّر عنه هؤلاء الفاعلون الصحراويون في نيويورك لم يكن مجرد مشاركة رمزية أو حضور بروتوكولي، بل كان موقفاً نابعاً من قناعة راسخة بأن المغرب في صحرائه والصحراء في مغربها. لقد تحدثوا بلسان من يعيشون في أمن وطمأنينة في مدنهم، تركوا وراءهم مجتمعات مستقرة تنعم بالعيش الكريم، وجاؤوا ليوصلوا للعالم رسالة واحدة: لسنا ضحايا كما يدّعي البعض، بل نحن شركاء في بناء وطن يحتضننا جميعاً.

بهذا الحضور المميز والمداخلات القوية، استطاع ممثلو الصحراء المغربية أن يحولوا قاعة الأمم المتحدة إلى مساحة حوار حقيقي بين من يملك الحقيقة ومن يتستر خلف الأوهام. لقد نجحوا في تحويل النقاش من شعارات عتيقة إلى واقع ملموس، ومن لغة التصادم إلى منطق البناء المشترك. كان حضورهم بليغاً في صمته كما في كلماته، لأنهم تحدثوا باسم الأرض والناس والتاريخ، لا باسم المصالح الآنية أو الحسابات الضيقة.

لقد خرج الجميع من الجلسة الرابعة بانطباع واضح أن الملف يتجه نحو مرحلة جديدة عنوانها الواقعية السياسية والاعتراف الدولي المتنامي بمغربية الصحراء، وأن الحركة الصحراوية الوطنية بكل أطيافها أصبحت رقماً صعباً في المعادلة. أما الذين يصرون على البقاء أسرى لأوامر المخابرات الجزائرية، فقد وجدوا أنفسهم أمام جدار الحقيقة، حيث لا تنفع الشعارات ولا المناورات.

إن جملة “السلام الناقص… أفضل من الحرب العادلة” لم تكن مجرد تعبير بلاغي، بل إعلان عن وعي جماعي جديد، يدرك أن السلام هو جوهر الوجود الإنساني، وأن الحرب مهما بدت عادلة لا تجلب سوى الدمار والتمزق. هكذا تحدث أبناء الصحراء في نيويورك، وهكذا أعادوا رسم صورة قضيتهم أمام العالم: قضية وطن عادل في حقه، حكيم في مواقفه، واقعي في رؤيته، ومؤمن بأن الكرامة لا تُبنى بالحرب، بل بالسلام العادل الذي يصنعه العقل والإرادة المشتركة.