صوت حركة “صحراويون من أجل السلام” يزلزل أركان أطروحة الانفصال بنيويورك

في قاعة اللجنة الرابعة التابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك، ارتفع صوت جديد حمل مضمونه من عمق المعاناة الصحراوية، ودوّى صداه في أروقة الدبلوماسية الدولية. لقد كانت كلمة السيد الحاج أحمد بريكلي، السكرتير الأول لحركة “صحراويون من أجل السلام”، لحظة مفصلية في تاريخ هذا النزاع الذي تجاوز نصف قرن من الزمن. فالحضور الهادئ والواثق لهذا الرجل الذي خبر دهاليز السياسة والدبلوماسية منذ ثمانينيات القرن الماضي، شكّل نقطة تحوّل في النقاش الأممي حول قضية الصحراء المغربية، وأربك حسابات خصوم الوحدة الترابية الذين وجدوا أنفسهم أمام حقيقة لم تعد قابلة للإخفاء، وهي أن البوليساريو لم تعد تمثل سوى جزء محدود من الصحراويين، بينما ظهرت أصوات جديدة تعبّر عن رؤية أكثر نضجاً وواقعية، وفي طليعتها حركة “صحراويون من أجل السلام”.
في خطابه الصريح والواضح، أعلن الحاج أحمد بريكلي أن حركته ليست صوت المغرب ولا الجزائر، بل هي صوت الصحراويين الذين تعبوا من الحرب، من الشعارات الفارغة، ومن حياة المنفى التي ورثها الأبناء عن الآباء بلا أمل في الخلاص. إنها حركة وُلدت قبل خمس سنوات، نتيجة شعورٍ جماعي بالإحباط بعد نصف قرن من الصراع الذي لم يجنِ منه الصحراويون سوى الألم والتشتت. لقد تحدث باسم فئة واسعة من الناس الذين يريدون إنهاء زمن المواجهة وبداية عهدٍ من الحوار والتعايش. وأكد أن الحركة لا تبحث عن انتصارات سياسية أو مكاسب شخصية، بل عن الكرامة والسلام، لأن السلام، كما قال، وإن كان ناقصاً، يظلّ أفضل من حربٍ عادلة.
كان خطاب بريكلي بمثابة صرخة ضمير في وجه الجمود، إذ دعا إلى القطع مع التطرف والعناد الإيديولوجي الذي عطّل كل المبادرات السابقة. تحدث بلغة رجل خبر خبايا الصراع، يعرف كلفة الدم والدموع، ويدرك أن بناء مستقبل آمن يتطلب شجاعة أكبر من تلك التي تدفع الناس إلى القتال. لم يكن حديثه دفاعاً عن طرف ضد آخر، بل دفاعاً عن الإنسان الصحراوي الذي سُلب حقه في أن يعيش حراً في أرضه، وفي أن يختار مصيره بعيداً عن وصاية المخابرات الجزائرية التي أحكمت قبضتها على قيادة هرمة فقدت الشرعية والقدرة على التغيير.
لقد جاءت مداخلة السكرتير الأول لتضع جبهة البوليساريو أمام مرآة الحقيقة. فبعد خمسين سنة من الشعارات، والقرارات الفاشلة، والمناورات السياسية، تجد الجبهة نفسها اليوم في مأزق غير مسبوق. إذ كيف يمكنها أن تستمر في ادعاء تمثيل “الشعب الصحراوي” بينما مئات الشخصيات من أبناء الصحراء يرفعون أصواتهم ويعلنون بوضوح أن لا أحد فوّضها هذا الدور؟ وكيف يمكنها إقناع العالم بشرعية مشروعها، وهي التي صنعت “شعباً على المقاس”، عبر استجلاب أشخاص من مالي وموريتانيا وجنوب الجزائر وإعادة تشكيلهم في قالب سياسي مصطنع، فيما أبنـاء الصحراء الحقيقيون ظلوا مقصيين ومراقبين ومحشورين داخل الزاوية الضيقة لمخيمات تندوف؟
بهذا الحضور الوازن في الأمم المتحدة، بدّد الحاج أحمد بريكلي وهم “التمثيل الحصري” الذي روجت له البوليساريو طيلة عقود. لقد أعاد تعريف مفهوم “القضية الصحراوية” نفسها، إذ لم تعد قضية صراع مسلح ولا نزاع حدودي، بل قضية مصالحة داخلية بين أبناء الوطن الواحد. ومن هنا، تتقاطع رؤية حركة “صحراويون من أجل السلام” مع مبادرة الحكم الذاتي التي طرحها المغرب سنة 2007، باعتبارها الإطار الأكثر واقعية ومرونة لتحقيق تسوية نهائية وشاملة. فالحكم الذاتي يمنح الصحراويين حق تدبير شؤونهم بأنفسهم، ويضمن لهم مكانتهم في ظل السيادة الوطنية، وهو ما يفتح الباب أمام بناء نموذج تنموي متكامل في الأقاليم الجنوبية.
ويبدو أن المغرب بدوره يتجه نحو تحيين هذه المبادرة في ضوء التحولات الإقليمية والدولية، بما يجعلها أكثر انسجاماً مع تطورات الواقع المحلي، وأكثر جاذبية للشركاء الدوليين الذين باتوا يرون فيها مشروعاً ناضجاً وذا مصداقية. وهنا بالضبط يكمن الدور الجديد لحركة “صحراويون من أجل السلام”، التي تسعى إلى أن تكون جسراً بين الرؤية المغربية الواقعية وتطلعات الصحراويين الذين يريدون طي صفحة الماضي دون إذلال أو انتقام، في إطار معادلة “لا غالب ولا مغلوب”.
لقد كان النداء الذي وجهه بريكلي إلى المنتظم الدولي مؤثراً في مضمونه وإنسانيّاً في جوهره: “ساعدونا على فتح طريق السلام”. فالحركة تدرك أن السلام لا يُمنح، بل يُصنع بإرادة صادقة وشجاعة فكرية، وهي تعلن اليوم استعدادها الكامل لتكون شريكاً حقيقياً للأمم المتحدة في بناء هذا الطريق. فبعد سنوات من احتكار البوليساريو للخطاب الصحراوي، يأتي هذا الصوت ليعيد التوازن إلى النقاش، وليمنح الأمم المتحدة طرفاً جديداً يملك الشرعية الأخلاقية والقدرة السياسية على التعبير عن فئة صامتة ومهمشة من أبناء الصحراء.
ردّات الفعل الغاضبة في مخيمات تندوف، والتوجس الذي ساد في كواليس الدبلوماسية الجزائرية عقب هذه الكلمة، لم تكن سوى دليل على عمق الأثر الذي أحدثته الحركة في مسار القضية. فقيادات البوليساريو التي اعتادت مخاطبة لجان الأمم المتحدة بخطابٍ خشبي متكرر، وجدت نفسها فجأة أمام رجل يتحدث من الداخل بلغة العقل، ويُسقط عنها ورقة التوت التي كانت تغطي تبعيتها. لقد ارتعدت فرائصهم وهم يسمعون أحد أبنائهم السابقين يدعو علناً إلى المصالحة بين الصحراويين والمغاربة، وإلى الاعتراف بأن استمرار الانفصال ليس سوى رهان خاسر يقود الجميع إلى العدم.
بهذه الجرأة السياسية، تحولت كلمة الحاج أحمد بريكلي إلى زلزال دبلوماسي حقيقي، أعاد ترتيب أولويات النقاش حول الصحراء المغربية، وكشف للعالم أن هناك داخل المخيمات من يرفض الوصاية، ومن يطمح إلى مستقبلٍ مختلف يقوم على التعايش والتكامل لا العداء والانقسام. لقد استطاعت حركة “صحراويون من أجل السلام” أن تفرض نفسها كرقم صعب في المعادلة، وأن تفتح أفقاً جديداً أمام الحل السياسي المنشود.
إن ما جرى في نيويورك لم يكن مجرد حضور رمزي أو مداخلة عابرة، بل كان إعلاناً صريحاً عن ولادة وعي صحراوي جديد يعيد تعريف معنى الانتماء والهوية، ويؤكد أن الوحدة ليست قهراً بل اختياراً حراً وواعياً. لقد بعث هذا الصوت الأمل في نفوس آلاف الصحراويين الذين ظلوا سجناء الخيام والانتظار، وجعلهم يؤمنون بأن زمن المتاجرة بمصيرهم قد ولّى. ومع هذا التحول العميق، يمكن القول إن ملف الصحراء يدخل مرحلة جديدة عنوانها الحوار بدل التهديد، والكرامة بدل الاستغلال، والمستقبل بدل الماضي.
إنها بداية صفحة مختلفة من التاريخ، كتبت سطورها حركة آمنت بأن “السلام وإن كان ناقصاً، أفضل من حربٍ عادلة”، وبأن الطريق نحو الغد لا يمر عبر البنادق، بل عبر العقول والقلوب التي تؤمن بأن العيش المشترك هو قدر هذه الأرض التي تتسع للجميع. وهكذا، يمكن الجزم بأن صوت “صحراويون من أجل السلام” زلزل فعلاً أركان أطروحة الانفصال بنيويورك، وأعاد للقضية بعدها الإنساني والوطني، وللصحراويين حقهم في أن يكونوا شركاء في السلام لا أدوات في الصراع.
اترك تعليقاً