دون عناد نقرر أن حضور العربية المبهر في بعض المحطات التاريخية شكل عبر التاريخ المحتد صمام أمان للتراث الإنساني بكل ما تمثله العبارة من مقصد، و من دون أي علو يمكن أن تُحمل عليه. و منذ فترة و السُّوسُ ينخر اللسان العربي، و مُهدِّداته تَطيف به من كل جانب،تتبدى العلامات عليها، و يتنامى ظهور عدد من أبعادها، و تتنوع جهات القصف و إطلاق النيران من خلالها؛ و الاحتفال الممتد بالضاد مسألة مهمة من الزاوية النفسية، و تَمَثُّلٌ مهم لمقاصد المرجعية المؤطرة، و لكنها مهمة أيضا حين تتخد منحى إيجابيا يسهم في معالجة قضية التهديد التي يمتد الشعور بها منذ زمن طويل من عمر العصر الحديث .
(( و لعل تدبر الشأن اللغوي بما يطغى عليه من سياسات الجمع و التعدد ، من غير الاقتصار على منهجية واضحة في مواجهة تداعيات التهديد: سياسات متباينة مختلفة، بل متناقضة أحيانا، حسب طبيعة المتدخلين و تعارض خلفياتهم أو مصالحهم؛ يفضي بالخلاص إلى عمق المنخور و يأجج الضمير فضلا عن الفرض الواجب، الداعي إلى مواجهتها بصيغ مُتَّحِدة … )).
إن مراجعة مصادر التاريخ العربي المعاصر تشهد حضورا للأمم بالتهديد اللغوي، ممتدا على الخريطة الثقافية العربية المعاصرة جغرافيا و زمنيا. ف”العقاد” مثلا و انطلاقا من ( الهوية الواقية ) فتش عن ملامح ( اللغة الشاعرة ) ، ثم جاء “مالك بن نبي” ليعلن بصرامة و وضوح أن عُجمة اللسان العربي إرث ثقيل عن بقايا الاستعمار . ليخلص “فهمي هويدي” في بيانه المنذر الخطير : (عروبة الخليج في خطر) إلى مهددات أخرى أشد بأسا و قوة .
هذه الأصوات الثلاثة فقط، تتوزع على الخريطة مشرقا و مغربا، و تمتد زمنيا لتغطي قرنا منصرما و مطلع قرن نعاني قهر تفاصيله، و هي تعلن جميعها أنه لم يعد هناك وقت للاحتفال المعزول عن الشعور بمخاوف التهديد.
و تسعى هذه المقالة المقتضبة ، المستخرجة من خلاصة دراسة لنا تحمل عنوان : (( تهديد اللسان العربي : التحديات الكبرى و استراتيجية المواجهة ))، إلى أن ترفع الصوت بنمط جديد من الاحتفال، يستهدف شدَّ النظر سريعا إلى التحديات الحضارية التي تواجه اللسان العربي ، و تدعوا لحياطته بما من شأنه أن يحفظ كرامته و يقيم اعتباره لما فيه تعافيه و صحته .
تحديات الوضع الراهن .
بسبب تراكم عظيم القوة للتغيرات الحضارية و الديمغرافية ، تُطل مجموعة من علامات التهديد. و كثير من المتغيرات المتنوعة تضعنا في قلب الشعور بالأزمة و أعراضها.
و قد استفاض هذا الشعور، و انتقل من أروقة البحث العلمي إلى الفضاء الصحفي، و هو ما يعني تمدد الوعي بالحالة المعرفية الخاصة بتهديدات اللسان العربي. يقول “فهمي هويدي” في مقالته : (( ثمة أسباب متعددة للهزيمة اللغوية التي مرت بها الأمة العربية، لعل أهمها حالة الهزيمة الحضارية و السياسية المخيمة التي جعلت المغلوب يسعى إلى تقليد الغالب و تمثله، و نحن نشاهد تجليات ذلك التقليد في مختلف نواحي السلوك الاجتماعي، الأمر الذي لا يستغرب منه أن ينسحب التقليد على لغة التعامل بين الناس. غير أن وطأة الهزيمة بدت أشد، و ثمنها غدا باهظا في المجتمعات الخليجية التي تعاني الجذب السكاني ، و تعتمد بنحو كبير على العمالة الوافدة التي جاءت بلغاتها المتعددة )).
هذه الفقرة من هذه المقالة تستهدف تعيين العلامات التي تعكس عمق التهديد ، ذلك أن تعيين هذه العلامات هو المقدمة الضرورية للمثاقفة حول استراتيجية المواجهة .
يمثل التحدي الحضاري أهم ما يهدد اللسان العربي ، و المقصود به : العجز العربي المطبق في ميادين إنتاج المعرفة ! .. لقد تراجع المجتمع العربي تراجعا يرادف الموت، أو التوقف منذ زمن بعيد عن إنتاج العلم و آلياته و مناهجه ، و هو الأمر الذي انسحب بالضرورة إلى إمداداته المنعدمة للمعجم العلمي العالمي .
هذا الشعور الحاكم يستفيض في سياق منقطع النظير بكتب اللسانيين العرب الكبار المعاصرين ، من أمثال ” سعد مصلوح ” في مقدمة ترجمته لكتاب ” إدوين غينتسلر ” في ” نظرية الترجمة ، اتجاهات معاصرة ” : (( اللغة العربية لا يمكن أن تعد من اللغات المحدودة الانتشار ، لا من جهة عدد الناطقين بها ، و لا من جهة نفوذها الديني و الثقافي في بلاد الإسلام . و قل مثل ذلك في وضع الثقافة العربية الإسلامية و دورها في تاريخ التطور الحضاري للفكر البشري ، حضورا و تأثيرا ، و مع ذلك فإننا حين نشخص واقعة نجد ـ بلا ريب ـ أن لغة العرب و ثقافتهم تكادان تكونان كلتاهما قابلتين للانضواء تحت القسيم الثاني الذي يتصف بمحدودية الانتشار و ضعف التأثير )).
إن هذا الذي قرره هذا اللسان العظيم و إن كان جاءه بفحص سهمة العرب في نشاط الترجمة فهو صحيح جدا بفحص سهتهم في نشاط إنتاج العلم و المعرفة ، ومن ثم تجديد اللسان و تجديد المعجم .
إن التراجع الحضاري للأمة العربية في أعلى تجلياته و أظهرها ينسحب بصورة مؤكدة على التراجع اللغوي للعربية استعمالا و معجما . و يمثل التحدي الحضاري واحدا من أهم التحديات التي تولد تشرذما يطغى على نفسية الفاعل العربي ، و يشكل واقع التحديات التي تقضم اللغة العربية في الوقت الراهن ، و يمكن تلخيص ذلك في أن العرب يعيشون حالة غرام مريض بالغرب !
لقد حاول كثير من المفكرين العرب المعاصرين المنتمين إلى مدرسة الهوية اللغوية الواعية ـ كما أسميها دوما و أشخص حالها في كثير من المحافل ـ أن يدرسوا هذا التحدي ، فكشفوا عما سموه الاستعداد للاستعمار ـ و سميته في الدراسة ” استدمارا ” مراعاة لطبيعة العبارة الوليدة عن متغيرات إمبريالية محضة ـ ، على حد تعبير علال الفاسي ، ثم سمي القابلية للاستعمار ، عند مالك بن نبي ، و هو المفهوم الذي استقر في بنية الفكر العربي المعاصر و ظهر في تسمية واضحة تفسيرية في ما سبق نقله من فهمي هويدي باسم الهزيمة !كل ذلك موصول بالقانون الذي أبدعه ابن خلدون قديما عندما قرر أن المغلوب مولع بتقليد الغالب . إن هذا التحدي يبدو أثرا و نتيجة من آثار التحدي النفسي و نتائجه على المستوى العقلي و البنيوي للشخصية العربية المعاصرة في الغالب .
استراتيجية المواجهة :
إن فحص المهددات و التحديات التي تواجه اللسان العربي في الوقت الراهن ، يفرض مجموعة من سياسات المواجهة نجملها في ثلاث خطوات رئيسية أساسية :
أولا : إعادة تصدير حقيقة ربط اللسان العربي بالمقوم الديني .
إذ كان متوغلا في الوعي العالمي للأمة أن تفهم العربية من الديانة، على حد تعبير محكم أطلقه “الثعالبي” في مقدمة كتابه (( فقه اللغة و سر العربية )) . و هي سبيل ناجعة على طريقة مواجهة التهديدات التي تواجه اللسان العربي ، بما تحفها من العلائق الدينية و الإيمانية المتعلقة بالكتاب العزيز العربي اللغة ، و النبي الكريم العربي البيئة و المنشأ ، و هو ما ينبغي أن يشيع و يترسخ في البرامج التعليمية و الإعلامية و البحثية معا.
ثانيا : إعادة تصدير حقيقة الربط بين اللسان و المعطى القومي .
إن دراسات القومية دأبت ، على اختلاف مناهجها و نظرياتها ، على النظر إلى اللسان بما هو مقوم أساسي في بناء الشخصية القومية. و من المدهش أن الباحثين في حقل القومية، على اختلاف نزعاتهم و توجهاتهم الفكرية ، يجمعون على ما نقرره . و هو يلزم إعادة إحيائه في برامج تربية المواطنين العرب من الوجهة القومية .
ثالثا : دعم الأبعاد العاطفية على طريق الارتباط باللسان العربي .
فإعادة بناء صرح عاطفي و وجداني نحو اللغة العربية تعد مقدمة أساسية في اتجاه مقاومة علامات التهديد التي تحيط بها . ذلك أن الدعم الواصل للغة من وجدان أبنائها يمثل سلاحا ناجعا على المستوى الحضاري و النفسي و الاجتماعي و يعد تمهيدا و تهيئة لإجراءات استعادة المكانة .
إن قضية مواجهة التهديدات التي تحيط بالعربية هي في الحقيقة قضية إحياء بالمعنى المادي أولا لأبناء الأمة العربية ، ثم هي في الحقيقة إحياء بالمعنى العقلي و النفسي و الحضاري لها مرة ثانية .
ــــــــــ
محمد العثماني / مهتم بالسياسات اللغوية و اللسانيات العربية