من أجل عقد اجتماعي جديد للمغرب: بناء نموذج للتنمية والعدالة الاجتماعية

يدخل المغرب فترة مصيرية في تاريخه الحديث تتميز بمواجهة متطلبات اجتماعية متزايدة، وتحولات اقتصادية، وعدم اليقين العالمي، مما سيتطلب بناء تعاقد اجتماعي جديد وطموح، وهو عبارة عن ميثاق وطني يهدف إلى التوفيق بين النمو والعدالة والثقة بين الدولة ومواطنيها. هذا العقد، والمستند في ركائزه إلى رؤية جلالة الملك محمد السادس نصره في عدة خطب ورسائل وتوجيهات، تهدف إلى إعادة تشكيل نموذج الحكم والتنمية في البلاد. تدعو جميع الفاعلين – الدولة، الأحزاب السياسية، النقابات، المجتمع المدني، القطاع الخاص والمواطنين – إلى توحيد جهودهم لبناء مغرب أكثر عدلا، وأكثر شمولا، وأكثر ازدهارا.
وفي هذا الإطار فقد سبق أن توقيع الميثاق الوطني من أجل التنمية كثمرة لمخرجات النموذج التنموي الجديد، حيث أشار العاهل المغربي في خطاب العرش لسنة 2021 إلى “وإننا نتطلع أن يشكل الميثاق الوطني من أجل التنمية، إطارا مرجعيا، من المبادئ والأولويات التنموية، وتعاقدا اقتصاديا واجتماعيا، يؤسس لثورة جديدة للملك والشعب. وبصفتنا المؤتمن على مصالح الوطن والمواطنين، سنحرص على مواكبة هذا التنزيل، بما يلزم من إجراءات وآليات”، إلى أن تفعيل هذه الالتزامات لم يكن بالمستوى المطلوب وخاصة في غياب حكامة لمخرجات النموذج التنموي وتتبع تنزيله إلى أرض الواقع.
إن العقد الاجتماعي الجديد ليس مجرد شعار سياسي، بل هو عملية تحول استراتيجي تبتغي إعادة هيكلة جماعية للمقاربة التي تنظم بها السلط والمسؤوليات والفرص، بهدف تحقيق العدالة الاجتماعية والتقدم المستدام.
إعادة ابتكار الروابط الاجتماعية
خلال العقدين الماضيين، حقق المغرب تقدما كبيرا، من تحديث البنية التحتية وتطوير الطاقات المتجددة إلى إصلاح الحماية الاجتماعية والتحول الرقمي. ومع ذلك، فإن الفوارق المستمرة، والبطالة بين الشباب تجاوزت 47% حسب أرقام المندوبية السامية للتخطيط، والفوارق الترابية، قد غذت المطالبات إلى عقد اجتماعي جديد يضمن عدم ترك أي شخص خلف الركب. ومن المفترض أن يهدف العقد الاجتماعي الجديد إلى إنهاء المقاربات التجزيئية والقطاعية للسياسات واستعادة الشعور بالفائدة الجماعية، أي أن الأمر يتعلق الأمر بإعادة التفكير في الأسس القيمية والاقتصادية للتنمية الوطنية. وبطريقة أخرى، يجب أن يرتكز العقد الجديد على فكرة بسيطة وهي أنه لا يمكن للتنمية أن تنجح بدون عدالة اجتماعية، ولا يمكن للعدالة الاجتماعية أن تزدهر بدون مسؤولية مشتركة.
دور الدولة: من مزود للخدمة العمومية إلى شريك
ستظل الدولة حجر الزاوية في هذا العقد الاجتماعي المنشود. ومع ذلك، فدورها الحديث يجب أن يتطور من مزود مركزي للخدمات العمومية، شريك يقنن تحمل المسؤولية على الفاعلين الآخرين. وفي هذه الحالة يفترض أن تشمل أولويات الحكومة بناء نموذج إداري تعاوني، مرن وصامد، ثم تحسين الخدمات العمومية، وتعزيز الحكامة الفعالة، وشفافية ونزاهة التدخلات العمومية، وتوسيع نظام الحماية الاجتماعية ليشمل الأكثر هشاشة وبالتالي فمهمة الدولة هي خلق ظروف الثقة، من خلال ضمان العدالة، وفرض المساءلة، وحماية حقوق المواطنين.
الأحزاب السياسية: استعادة الثقة والحيوية الديمقراطية
في إطار العقد الاجتماعي الجديد، لا شك أن أي فاعل آخر، لا يحظى بالمراقبة مثل الأحزاب السياسية، والذين لطالما تعرضوا للنقد بسبب انفصالهم عن الواقع وعدم كفاءتهم، وهم الآن في تحد مصيري لإعادة ابتكار أدوارهم كجسور بين المواطنين والدولة. فمصداقية السياسة خلال العقد الأخير على المحك وقد أكد جلالة الملك على ذلك عدة مرات. وبالتالي يجب على الأحزاب السياسية في هذه الظرفية أن تثبت أنها تستطيع تمثيل تطلعات الشعب، وليس فقط السعي للحصول على الكعكة الانتخابية والانقطاع على هموم المواطنين. وبمعنى آخر، يفترض بالأحزاب أن تقترح برامج سياسية متماسكة وواقعية، وأن تشارك في حوار شفاف وتستعيد ثقة المواطنين في المؤسسات العمومية ويجب عليهم أيضا فتح أبوابهم للشباب والنساء والأصوات الجديدة، مما يضمن التجديد السياسي والحيوية الديمقراطية. فهمة الفاعل السياسي تتجلى حاليا في تعزيز ثقافة سياسية من المسؤولية والمشاركة، وتعزيز الرقابة البرلمانية، ومكافحة الفساد والمحسوبية. وباختصار، يتطلب الميثاق الاجتماعي المغربي الجديد من الأحزاب السياسية أن تعود إلى رسالتها الأساسية وهي خدمة المصلحة العامة وتجسيد الروح المواطناتية.
النقابات: الحوار كأداة للتنمية
تظل الحركة النقابية فاعلا أساسيا في البنية الاجتماعية المغربية. في هذا السياق الجديد، لا بد للنقابات أن تتوجه إلى تعزيز ممارسة حوار اجتماعي بناء وتجاوز نهج الصراع بدون بدائل. فمن خلال الدفاع عن حقوق الطبقة العاملة، وتعزيز العمل اللائق، والمساهمة في السلم الاجتماعي، تعد النقابات ضرورة للحفاظ على التوازن الهش بين التنافسية الاقتصادية والحماية الاجتماعية. وتظهر بعض مراحل الحوارات الاجتماعية الأخيرة بين الحكومة وأرباب العمل والنقابات – التي تتناول الأجور وإصلاح التقاعد وحقوق العمل – التزام المغرب بالحوار كوسيلة لتحقيق الاستقرار والتقدم، ولكن ليس بالمقاربة الصحيحة التي ستساهم في النهوض بالفعل التنموي المغربي.
المجتمع المدني: صوت الإدماج والمسؤولية والمرافعة
فرض المجتمع المدني المغربي نفسه خلال العقدين الماضيين كواحد من أكثر المجتمعات دينامية في المنطقة ويتجلى دوره بالأساس في إطار العقد الاجتماعي المنشود في مهامه كناطق باسم الإدماج والابتكار والتمكين الترابي. فبمقتضى الدستور المغربي فالجمعيات والمنظمات غير الحكومية مدعوة للمساهمة الفعالة في إعداد وتنفيذ وتتبع وتقييم السياسات العمومية، وكذلك تعزيز المشاركة المجتمعية، والمرافعة لصالح الفئات الهشة، ولا سيما الشباب والنساء والسكان القرويين. وأخيرا يلعب المجتمع المدني أيضا دورا في المراقبة، مما يضمن الشفافية، والمسؤولية البيئية، والولوج العادل إلى فرص التنمية وكخلاصة، يمثل المجتمع المدني الضمير الحي للتعاقد الاجتماعي الجديد.
القطاع الخاص: تطور ملحوظ للأدوار
يعتبر القطاع الخاص المحرك لخلق فرص العمل، وهو مدعو لتبني مسؤولية اجتماعية جديدة تتماشى مع أهداف التنمية في البلاد. بصرف النظر عن الربح، من المفترض أن يساهم هذا الفاعل في النمو الشامل، والاستدامة البيئية، والابتكار.وكذلك ستكون الشراكات بين القطاعين العام والخاص ضرورية لتنفيذ المشاريع الاستراتيجية، من البنى التحتية الرقمية إلى الطاقات المتجددة، مرورا بالصحة والتعليم. وقد أصبح الجيل الجديد من رجال الأعمال يدرك بشكل متزايد أن النجاح على المدى الطويل يعتمد على الاستقرار الاجتماعي والعدالة، حيث لا يمكن بناء شركات قوية في مجتمع هش، وبالتالي يجب أن يكون النمو مشتركا ليكون مستداما. لكن التحدي في المغرب الآن هو ضرورة بزوغ جيل جديد من المقاولات المواطناتية البعيدة نهائيا عن منطق الريع والربح السريع.
المواطنون: في قلب الميثاق
في النهاية، المواطن هو في قلب العقد الاجتماعي الجديد للمغرب. هذا الإطار يتصور مجتمعا يمكن لكل مغربي فيه الولوج إلى الفرص، وممارسة حقوقه، والمشاركة في الحياة العامة. فالمواطنون الآن، وخاصة الشباب، ليسوا مستفيدين سلبيين من السياسات العمومية كما يروج له؛ بل هم مشاركون في صنع التغيير. سواء من خلال المشاركة المدنية، وريادة الأعمال أو العمل المجتمعي، فإن مشاركتهم هي حجر الزاوية للتقدم الجماعي للأمة. فالإصلاحات الجارية تحت التوجيهات الملكية السامية، ولا سيما تعميم الحماية الاجتماعية، وتوسيع برامج التعليم والصحة، والاستثمارات في العدالة الترابية، تهدف جميعها إلى ترجمة هذه الرؤية المواطنية إلى واقع ملموس. لكن مقاربة التنفيذ لا بد لها من مراجعة جذرية تتعلق أساسا بضمان التقائية السياسات العمومية وتقوية اللامركزية ومحاربة الفساد وتبسيط المساطر الإدارية وضمان الاستفادة الشاملة والعادلة من الخدمات العمومية.
وكخاتمة، فالعقد الاجتماعي الجديد المنشود هو، بطبيعته، مشروع لتجديد وطني. يجسد عزم المغرب على التوفيق بين الحداثة والتضامن، والنمو والعدالة، والتقدم والكرامة. وإذا تم تنفيذه بنجاح، فقد يمثل بداية عصر جديد من الازدهار المشترك والثقة الديمقراطية، مما قد يجعل المغرب نموذجا في التنمية الشاملة. فالتحدي الذي يواجه المغرب اليوم ليس فقط في النمو بشكل أسرع، بل في النمو معا وبناء العقد الاجتماعي الجديد هو الطريق لتحقيق ذلك.
* خبير في التنمية الترابية وعضو المعهد الدولي للعلوم الإدارية
اترك تعليقاً