“ضوضاء في الدرج و لا أحد على الباب”. مثل صيني يختصر ما عاشه العالم أثناء و بعد “الضربات المُركزة و المحدودة”، بصواريخ “ذكية و جميلة ” لمواقع داخل التراب السوري.
زوبعة في فنجان حاول اللاعبون الاستفادة منها و تصويرها كنصر مُؤزر يزيد من مصداقية قوى عالمية و إقليمية أتخمت العالمة كذبا و بهتانا و زورا.
بدأت المهزلة ب”تسميم” عميل روسي مزدوج يدعى سيرغي سكريبال رفقة ابنته (يوليا)، قبالة مطعم بمدينة سولزبري جنوب غرب بريطانيا. حكومة صاحبة الجلالة قالت أن العميل سُمم بغاز أعصاب من نوع “نوفيتشوك (القادم الجديد) ، و اتهمت روسيا بتدبير العملية ساعات قليلة قبل إجراء انتخابات الرئاسة.
التزم الروس الهدوء لتزامن العملية مع إعادة انتخاب رئيسهم القوي. القيصر اجتمع بمعارضيه لحظات عقب إعادة انتخابه مؤكدا أنه لا يسعى لسباق تسلح مع الغرب، و أن اهتمامه سينصب على شأن وطنه الداخلي. تصريح اعتبر انقلابا ب180 درجة لما قاله القيصر أياما قبل الانتخابات. صرح حينها أن بلده أنتجت صواريخ لا تستطيع رادارات الغرب رصدها، و أن ترسانته النووية جاهزة حال تعرض روسيا أو أي من حلفائها لخطر وجودي. نعم يا سادة، هكذا يتم التلاعب بوعي الشعوب بين ليلة و ضحاها!
بالعودة لبريطانيا، كانت سيارات الإسعاف على أُهبة الاستعداد لنجدة العميل السابق و ابنته، و كأن أحدا قد أخبرهم بنبإ الاعتداء و مكان وقوعه! روسيا استهانت بالحادث بداية واصفة العميل سكريبال ب”التافه”، قبل أن تفاجئها حملة مقاطعة الغرب و سحب سفرائه، لتتذكر أن “سكريبال” و ابنته مواطنون روس، و تطلب مقابلتهن و أخد إفاداتهم!
استمرت أطوار المسرحية بالتتابع فتبنت أزيد من 20 دولة غربية موقف بريطانية، و يبلغ عدد الدبلوماسيين المغادرين التراب الروسي قرابة 300، بينهم 140 أمريكيا.
روسيا المشدوهة بالضربات الغربية تعمقت في البحث و قالت أن بريطانيا تملك مركز أبحاث ضواحي لندن بمقدوره إنتاج المادة التي سُمم بها سكريبال. الروس أكدوا أن قطتين أليفيتين و خنزيرا كانوا من “بين ضحايا نوفي تشوك”، مطالبين بالكشف عن مصير الجثث التي ستفيد التحقيقات لا محالة.
توالت اللكمات الموجهة لدولة فلاديمير، فقرر الغرب أن يستهل القيصر ولايته على وقع قواعد لعبة جديدة. فبوتن من استغل طيلة سنوات ضعف ديمقراطية الغرب، و صعود تيارات قومية شعبوية داخل أكثر ن بلد (بريطانيا، أمريكا، ألمانيا)، حان له أن يستفيق من غيبوبته، و يلزم حدوده، مدركا أن “العالم الحر” قرر أن يبادر في مواجهة الدُّب، و أن لا يكتفي بردود الأفعال.
مع اشتداد الخناق الدبلوماسي على الكرملين تسارعت الخطى لإخلاء الغوطة الشرقية، ضواحي دمشق، من المسلحين و المدنيين على حد السواء، فسلم الجميع أسلحته (فيلق الرحمن، هيئة تحرير الشام، أحرار الشام) ما عدا جيش الإسلام أكبر الفصائل و أشدها تسليحا.
كُثفت المفاوضات بين الروس و الفيلق الذي يملك حاضنة شعبية كبيرة، إلى جانب فيلق الرحمن، على اعتبار أن أغلب مقاتلي الفصيلين من أبناء عائلات تعيش بغوطة دمشق داخل بقعة تقارب مساحتها 100 كيلو متر مربع.
بتنسيق مع تركيا و السعودية قرر جيش الإسلام تسليم عتاده والتوجه صوب مناطق الشمال السوري الخاضع لحماية قوات رجب طيب أردوغان. غير أن شوكة أخرى ستدخل خاصرة روسيا سويعات قبل تنفيذ الاتفاق.
انتشرت صور لما قيل أنهم مدنيون أصيبوا بسلاح كيماوي مُلقا من طائرات بشار، الذي يصفه كثيرون من السوريون ب”البراميلي” نسبة لتقنية البراميل المتفجرة، الاقتصادية و المُدمرة. أقل المتابعين دراية سيلحظ أن الصور غير متناسقة، و أن السلاح الكيماوي أقوى و أخطر من أن يُعالجه المسعفون بأوجه مكشوفة و يدين بارزتين! المهم أن الذريعة توفرت لمن أراد استعراض عضلاته و تجريب أسلحته داخل الساحة: سوريا.
120 صاروخا طوماهوك، بسعر يتراوح بين 600 ألفا و 2.1 مليون دولار، ضربت مناطق ضواحي العاصمة السورية دمشق.
مستودعات كانت خالية تماما من المعدات العسكرية الحيوية، و بعيدة كل البعد عن مناطق تواجد القوات الروسية و مدى صواريخها الإس 300 و الإس 400. غارات قال المحللون العسكريون أنها لم و لن تغير من توازنات القوى على الأرض.
رئيسة وزراء بريطانيا “تيريزا ماي” لم تذق طعم النوم، فآخر أجزاء مسرحية خطر السلاح الكيماوي لم تنتهي بعد. نعم شعب بريطانيا العظيم، الأسلحة التي سُمم بها العميل سكريبال هي نفسها التي قُصف بها أطفال الغوطة. حربنا في سوريا هي دفاع عن أمننا القومي، و مُرتكب العمل العدائي داخل وطننا هو من يدعم قصف المدنيين في سوريا!
ترمب، ورط وزارة دفاعه في معركة على تويتر قبل أن تتقرر على أرض الواقع، فكانت صواريخ الفجر خير حافظ لماء وجهه.
صديقة الرئيس و ممثلته “نيكي هيلي” صرحت بلغة شديدة الوضوح : عندما يُحدد رئيسنا خطوطا حمراء فعلى العالم أن يلتزم بها!”. رسالة لطهران أن ترمب لا يمزح، و أن كوريا الشمالية مطالبة بخفض سقف تطلعاتها في أي مفاوضات مرتقبة، و لسعودية الملك سلمان : الحليف الأمريكي جاهز بمصداقية كبيرة، شرط أن تبقى الخزائن مفتوحة!
دعك من إيمانويل ماكرون الشاب المتحمس، المفتون بالنموذج و الحلم الأمريكي، فأكبر إنجازاته 8 صواريخ انطلقت من طائرتي ميراج 2000 و رافال، و سفينة قبالة البحر المتوسط. خبراؤه نصحوه بضرورة المشاركة في الضربة حتى تبدو فرنسا قوة عظمى استعادت دورها الجيوسياسي، بعد فترة سُبات فرانسوا هولاند.
نظام الأسد سوق لنفسه خارجيا كدولة “ذات سيادة” تعرضت لاعتداء غاشم منتهكا قوانين الشرعية الدولية، و داخليا توجه العقيد بشار (لا أحد يعلم متى نال رتبة العقيد؟) بكلمة لما تبقى من شعبه، مصورا صواريخ ضربت الخلاء كمعركة خاضها الجيش العربي السوري ضد عدوان ثلاثي، بينما يغط شعب سوريا السعيد في نوم عميق!.
أخيرا ارتدت روسيا عباءة الدفاع عن الشرعية الدولية و قوانين المنتظم الدولي محاولة درء شبهة الدولة المارقة. شبهة ارتبطت بالدولة الفيدرالية منذ دعم انفصالي شرق أوكرانيا و ضم شبه جزيرة القِرم بقوة الأمر الواقع.
يبقى الغائب الأكبر عن المشهد دُول عربية مُجتمعة في شرق السعودية (مدينة الظهران) هربا من صواريخ عبد المالك الحوثي البالية المتهرئة. صواريخ وصفها السيسي خطئا ( صوابا) أثناء إلقاء كلمته ب”الصواريخ البلاستيكية”. نعم يا سادة، دائما ما يُنطق الله المُشير بالحقيقة إما خطأ أو زلة لسان!
ديناصورات العرب يتبادلون المجاملات داخل قصر ألف ليلة و ليلة “إثراء”، يعيدون نسخ خُطب السنوات العجاف، مع إضافة جليلة و نوعية هي تسمية قمة الظهران “قمة القدس”…زعما زعما!
*باحث في الجغرافية السياسية و كاتب رأي مغربي