وجهة نظر

كليات رمضانية.. كلية الصوم (الحلقة 6): من مكامن الصبر في شهر الصوم

• {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) } سورة البقرة
• النهي عن الوصال والترغيب في تعجيل الإفطار..

{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) } سورة البقرة

قال الإمام الشافعي: الخوف : خوف الله ، والجوع : صيام شهر رمضان ، والنقص من الأموال : الزكوات والصدقات ، ومن الأنفس : الأمراض ، ومن الثمرات : موت الأولاد ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الأشياء بين جملة الصابرين على هذه الأمور بقوله تعالى : { وَبَشّرِ الصابرين }[1]. [2]

فمما يمكن أن يحمل معنى الجوع في الآية على الصيام، باعتبار أنه إمساك، وأنه داخل بالابتلاءات التي تميز المؤمن من غيره، فهو عبادة تركية عدمية من السهل اقتحام أسوارها والتظاهر بالتعبد بها، فلا يثبت عليها إلا الصادقون، فمن صبر على الجوع في شهر الصيام كانت له البشرى، فلا يجزعن ولا يتذمرن ولا يقنطن، فإن ما ينتظره بعد امتحان الجوع واكتساب قوة الصبر من خلاله من الخير ما الله به عليم.

يقول سيد رحمه الله: أن الإصابة بالخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات ليس شرا يراد بها ، إنما هو ابتلاء ، ينال الصابرون عليه صلوات اللّه ورحمته وهداه. [3]

النهي عن الوصال والترغيب في تعجيل الإفطار:
عن عائشة رضي الله عنها، قالت: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم»، فقالوا: إنك تواصل، قال: «إني لست كهيئتكم إني يطعمني ربي ويسقين» [4]

وعن أنس رضي الله عنه، قال: واصل النبي صلى الله عليه وسلم آخر الشهر، وواصل أناس من الناس، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «لو مد بي الشهر لواصلت وصالا يدع المتعمقون تعمقهم، إني لست مثلكم، إني أظل يطعمني ربي ويسقين» [5]

كما أن شهر رمضان خزان مهم للطاقة الصبرية، فإنه جاء لتعديل مفهوم الصبر حتى لا يهيم في مهاوي الغلو والإفراط، فنهينا عن الوصال اعتبارا لجمهورية الخطاب الذي يخاطب كل البشر بمختلف طاقاتهم وهممهم ومقاماتهم الإيمانية، ومراعاة لبشرية الإنسان، وتحمله المحدود، وتنبيها إلى أن تعذيب النفس وإضعافها شأن غير مقصود، وصبر غير محمود، فالصبر الذي يضعف الهمة، ويوغر أثقال الكسل، ويؤدي إلى القنوط واليأس والملل فليس بمقصود ولا مطلوب بل هو مذموم عنه مرغوب، والصبر المحمود المرغوب ما انضبط بالشرع ووافق الفطرة، ولم يهلك البدن وآتى مصالحه التربوية.

فالوصال وإن كان مقدورا عليه من بعض أهل الهمم العالية، إلا أنه حال غير سوية ولا ينبغي استمرارهم وإفراطهم فيها، ووصاله صلى الله عليه وسلم بأصحابه “لا يعد من التشريع العام، بل هو من تربية الأصحاب وخاصة الرجل. فهو من باب النصيحة لأصحابه لا من باب التشريع العام” [6].ومن باب أولى وأحرى أن يبتعد عنه عموم الناس حتى لا يعود عليهم بالمفسدة بدل المصلحة، وما زاد عن حده انقلب إلى ضده.

قال الإمام الشاطبي: فإن الأحق والأولى ما كان عليه عامتهم، ولم يواصل خاصتهم حتى كانوا في صيامهم كالعامة في تركهم له؛ لما رزقهم الله من القوة التي هي أنموذج من قوله عليه الصلاة والسلام: “إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني” ، مع أن بعض من كاد يسرد الصيام قال بعد ما ضعف: يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأيضا؛ فإن طلب المداومة على الأعمال الصالحة يطلب المكلف بالرفق والقصد خوف الانقطاع -وقد مر لهذا المعنى تقرير في كتاب الأحكام- فكان الأحرى الحمل على التوسط، وليس إلا ما كان عليه العامة وما واظبوا عليه، وعلى هذا؛ فاحمل نظائر هذا الضرب. [7]

وقال في موضع آخر: فإن الخروج إلى الأطراف خارج عن العدل، ولا تقوم به مصلحة الخلق، أما في طرف التشديد؛ فإنه مهلكة، وأما في طرف الانحلال؛ فكذلك أيضا [8]

كذلك الأمر والترغيب في تعجيل الإفطار، وحضور الفرحة واستجابة الدعاء عند ذلك، وما أجمل تلك الكلمات (ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله) الدالة على بلوغ سدة التتويج، ونقطة نهاية السباق، والفوز بثواب الخلاق، بعد مكابدة ومصابرة تنتهي بفرحة وسرور.

قال الإمام ولي الله الدهلوي: واعلم أن من المقاصد المهمة في باب الصوم سد ذرائع التعمق، ورد ما أحدثه فيه المتعمقون، فإن هذه الطاعة كانت شائعة في اليهود. والنصارى ومتحنثي العرب، ولما رأوا أن أصل الصوم هو قهر النفس تعمقوا، وابتدعوا أشياء فيها زيادة القهر، وفي ذلك تحريف دين الله، وهو إما بزيادة الكم أو الكيف.

ثم قال : ومن الكيف النهي عن الوصال والترغيب في السحور، والأمر بتأخيره وتقديم الفطر، فكل ذلك تشدد وتعمق من صنع الجاهلية، ولا اختلاف بين قوله صلى الله عليه وسلم ” إذا انتصف شعبان فلا تصوموه ” وحديث أم سلمة رضي الله عنها ” ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان ” لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل في نفسه ما لا يأمر به القوم، وأكثر ذلك ما هو من باب سد الذرائع وضرب مظنات كلية، فإنه صلى الله عليه وسلم مأمون من أن يستعمل الشيء في غير محله، أو يجاوز الحد الذي أمر به إلى إضعاف المزاج وملال الخاطر، وغيره ليس بمأمون، فيحتاجون إلى ضرب تشريع وسد تعمق، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم ينهاهم أن يجاوزا أربع نسوة، وكان أحل له تسع فما فوقها لأن علة المنع ألا يفضي إلى جور. [9]

ويدخل في هذا الضبط الشرعي للصبر والتوسط في تعلمه وتلقنه، نهي الحائض والمسافر والمريض عن الصيام، للحالة الاستثنائية التي اعترتهم والتي تتميز بالضعف وعدم الاستقرار، ولما يسببه لهم الصيام من ضرر جسدي ونفسي، وإيماني.

رمضان إن أبصرتنا في غابة … أسرى وروض الطهر فينا مقفر
ورأيتنا أمما ممزقة الخطا … وشبابها بمصيرها مستهتر
وتبدلت أخلاقها وتحورت … فالخوف حلم والضياع تحرر
والغدر حزم والخيانة فطنة … والصبر أن تحيا وحقك مهدر
فارفع يديك إلى السماء لعلنا … بوسيلة من ربنا نتغير [10]

ومن ثمار تعلم الصبر في شهر الصوم:

1- الثبات على مراد الله تعالى المتمثل في شرعه.
2- الشعور باللذة في مصابرة نفسه عما تميل نفسه إليه إذا كان فيه سخط الله و الارتقاء إلى أن كره جميع ما يكره الله منه و ينفر منه و إن كان ملائما للنفوس.
3- كسر النفس فإن الشبع و الري و مباشرة النساء تحمل النفس على الأشر و البطر و الغفلة.
4- تحمل إيذاء الناس.
5- ترجيح العفو والتسامح على حظ النفس.
6- طول النفس والاستغراق في القراءة والتعلم.
7- صفاء الذهن وتنور الفكر.
8- تعلم إمكانية العيش بحرمان.
9- ترجيح عزة النفس على ذل الشهوة.
10- تضييق مجاري الشيطان.
11- الإصرار على الإصلاح ومكافحة المفسدين.
12- الثبات في مواطن الحق والعزة والكرامة.

هكذا كان رمضان شهر صبر بامتياز، وهذا غيض من فيوض لمعاني الصبر المتأملة في شهر الصبر، ذلك الصبر الذي يكون وقودا للتغيير والتحرير، فتظهر ثماره يانعة ناضجة في الإصلاح ومكافحة الفساد.

{سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار }
1. – البقرة : 155
2. – جامع لطائف التفسير (2/330)
3. – في ظلال القرآن (1/34)
4. – رواه البخاري (3/37/1964)
5. – رواه البخاري (9/85/7241)
6. – مقاصد الشريعة (3/296)
7. – الموافقات (3/266)
8. – الموافقات (5/277)
9. – حجة الله البالغة (2/80)
10. مجلة المنهل العدد (513) .