منتدى العمق

“المقامة الوبائية”

حدثنا بن التمار قال: في سنة مجدبة وأرض غير معشبة لم يجد انتظار ولم يفد استمطار، نفد فيها صبر الحليم وعُدم فيها جود الكريم وشقي ذو العقل السليم ، فخرجت مع نفر ممن خرج، وأمَّلت معهم قرب نصر ودنوَّ فرج، فضربنا في الأرض أياما، إلى أن بلغ كل منا مقاما، ولما وصلت حاضرة مأمولة، وجدتها عامرة مأهولة، فطلبت فيها عملا ملائما، وقنعت أن أكون فيه مياوما، وذات نهار شرع في الهروب، وشمسه أعلنت عن قرب الغروب، قصدت ساحة شهيرة، حجت إليها أجناس كثيرة، أتوها من كل حدب وقصدوها من كل صوب، فإذا فيها حِـلقٌ رصت، عليها العادة وَصَّت، فجلت بينها طويلا، وحلت عنها عليلا، ما فيها إلا راقصة تتعوج، ونامصة تتموج، أو صاحب حيات وقرود طالب على الصورة دراهم ونقود، فملت أسفا عن شهرة ذائعة زائفة، وقفلت كسفا على دراهم ضائعة تالفة، فبينا أنا آيب، ولنفسي معاتب، إذا برجل كبير القامة، لفَّ رأسه بعمامة، ومحى رسمه بكمَّامة، نادى بصوت عال، أن تحلقوا يا رجال، فإني مخبركم بخبر مدقق خبير، ومخطركم بخطر محقق خطير، فطربت للحن صوته، وملت إليه في وقته، وذكرت شيخنا حمان، الذي باعد بيننا وإياه الزمان، فندنوت إلى أن أمعنت فيه النظر، واقتربت، واقتربت وأمعنت فيه الفكر، فإذا هو كهل في هيأة فحل، قد استوى عوده، وما احدودب عموده، ذو لسان فصيح، وقول مليح، قال بعد أن تجمعت حوله رجال، واستهوى قلوبا وأمال: هل جاءكم الخبر اليقين، عن الداء المبين؟ إني قادم إليكم من بلاد الصور، ووافد عليكم بما فيه هلاك الدور، ومجاورة حي لمقبور، قد انتشر بينهم داء وبيل، وذاع فيهم شر مستطيل، إنه وباء يعدي ويميت، وبلاء يردي ويفيت، ألا إنه قد وَلَّى زمن المصافحة والتزاحم، وحان وقت المسامحة والتراحم، فكفوا عن التقبيل والشم، وعفوا عن التربيت والضم، وتباعدوا قبل الحين، وتعاهدوا على البين، إلى أن يقضى الأمر المفعول، إن قولي لَلْمسؤول، وقوا أنفسكم وأهليكم، واسقوا بالصابون أيديكم، إنه داء لا يوقى، وجن لا يرقى، ما له دواء بعد معلوم، والشفاء منه بالغيب مرجوم، لا يهيلنكم ما سمعتم، ولا يريبنكم ما وعيتم، فإن هذا المرض الفاتك، الذي لكل ستر هاتك، يعدي بالرذاذ ونحوه، ولا ينجو منه أستاذ بفهمه، ولا رئيس بحرصه، فأول قتيل به كان طبيبا، فاسمع وعِ وكن لبيبا، فضحك أحد الرجال، قال بنوع من التعال: إن قولك عين الملاحة، وإن مقولك نبع الفصاحة، رد شيخنا والبسمة تعلو محياه، كَقَـفْـرٍ وَابِل الغيث أحياه، هذا لطف من حضرتك، ونبل في سريرتك، لكن ما كان ذا ما أملت، ولا ثناءك تسولت، ثم عاد ليقول، ما حير العقول، وجعلهم في ذهول، إن جيوشهم معه لم تنفع، ودعاؤهم عليه لا يسمع، لا تنفع معه شجاعة، ولا تمنع منه مناعة، ولا يقاوم بالمدافع، ولا يواجه في المعامع، ولا تشفع عنده المدامع، لا يحن لِباكٍ، ولا يرق لِشاكٍ، إنه غالب لا يغلب، وضارب لا يضرب، فكونوا كالسَّامري وميلوا عن الناس، وأعلنوا وقولوا لا مساس لا مساس، وأوقفوا دوام العمل والتعليم، وداوموا على الغسل والتعقيم، وتآخوا ولا تتراخوا، وتصدقوا ولا تفرقوا، واشكروا ولا تكفروا، وأكثروا من الدعاء، فإنه للمؤمن النجاء، ثم أنشد:

أخي قد نُبِّـئْـت عن داء مبين، فكر حريصا على نفسك حرص الضنين
ولُـذ بالبيت وكن عنهم معرضا، واصبر أيام الحجر تعش السنين
ولا تكن مقداما هاهنا يكن، فضلك فضل الميت على السجين

فأناله كل واقف نوالا، وما سألهم على ذاك سؤالا، ولكن عادة محكمة، وأعراف ملزمة، فانفض الجمع بعد التحام، وتشتت القوم بعد التئام، فظلت في مكاني واقفا، قال: ما لي أراك عاكفا، قلت ذكرتني بشخص صورته لا تنمحي من خيالي، ويراود فكري بَالَـيْـتُ أم لم أُبَالِي، وليس إلا حمَّانَ الفِيلالي، فطهَّر ما ناله، وأضمر في جيبه ماله، ثم أزال الكمامة عن وجهه، وقال هو بعينه ورسمه، فأردت الاقتراب بعد هذا الاغتراب، فقال اجعل بيني وبينك أمتارا لا مترا، وابتعد أشبارا لا شبرا، فقلت أَوَ صدقت ما قلتَه تصديقا، ما أراك إلا خلقته تخليقا، وإن في نفسي منه شيئا مريبا، فما أذعته ما يزال غريبا، قال ألم تسمع ما قلت آنفا، ما لعقلك أراه تالفا، أما تطلع على الأخبار، وترى ما يحدق بك من الأخطار، فاسمع قولي وأطعه، وارع نصحي وأذعه، ثم لوح مودعا، وهرول مسرعا، وهو يقول، إني مغادر على ما بي، ومهاجر إلى ربي، فبقيت ببصري أشيعه خاشعا وهو يسر، وقفلت راجعا وأنا حسير، وقلت في نفسي، وأنا أسمع همسي، هذا حَمَّان الذي جاد به الزمان ولا يرقى لمكره إنس ولا جان…

يتبع