وجهة نظر

الجابري لم يكن فيلسوفا والثقافة كانت تصنعها السياسة

لم يكن الجابري رحمه الله فيلسوفا كما يدعي من لا يعرفه. الرجل لم ينتج أطروحة فلسفية بل كان باحثا في الفلسفة والفكر الإسلامي. حتى الآن هناك إثنان لا ثالث لهما مارسا التفلسف في المغرب: محمد عزيز الحبابي وطه عبد الرحمان. 

الرجلان من جيل الجابري، لكن الجابري سلطت عليه الأضواء لأنه كان وراءه حزب وجريدة سيارة ذات إشعاع وقتها كان ينشر فيها باستمرار خصوصا في رمضان حيث كان الجميع يقرأ الجرائد آنذاك، فسكن الجابري أدمغة الطلبة ورجال التعليم لأنه المثقف الوحيد الغزير الإنتاج الذي يقرأون له.

عبد الله العروي كان من نفس الحزب ولكنه لم ينل نفس الشهرة، كان العروي أكثر عمقا من الجابري وأكثر تشددا في الأسلوب خلافا لأسلوب الجابري البسيط الذي كان في متناول الجميع. والعروي لم يكن ينشر في الجريدة وكان فرانكوفونيا ويفضل العزلة مقارنة بالجابري الذي مارس دور”المثقف العضوي” للحزب. ولكن الأول حظي بشهرة واسعة عند جميع الشرائح بينما بقيت شهرة العروي مقتصرة على نخبة محدودة لديها مستوى ثقافي متقدم. 

المثقف ابن شروطه الاجتماعية والسياسية التي أنجبته وساهمت في تشكيل شخصيته، والجابري لا يخرج عن هذا الإطار. وعلى الجميع أن يعرفوا بأنه في الستينات والسبعينات والثمانينات في المغرب كان المثقف يصنع صناعة داخل الأحزاب والنقابات ولم يكن لك حظ إذا لم تكن منهما. هذا لا يعني أن هؤلاء كانوا دون المستوى كلهم لمجرد أنهم يصنعون، لا، يعني فقط أن المدخل الوحيد لصناعة المثقف هو هذان الإطاران. علال الفاسي نفسه لو لم يكن رئيس حزب لما عرفه الناس إلا العلماء والباحثون.

من يعرف محمد بلحسن الوزاني؟ لقد كان مفكرا من طراز خاص ورئيس حزب، ولكن بمجرد موت حزبه انتهى. اليوم قليلون جدا جدا يعرفون المختار السوسي وعبد الله كنون ومحمد داوود والتهامي الوزاني وعبد الحي الكتاني وغيرهم، بالكاد تجد من سمع أو مر أمامه اسم من هؤلاء. من يستطيع أن يعرف محمد عزيز الحبابي؟ كمشة من الناس، يعني 1% من هؤلاء الذين تذكروا الذكرى العاشرة لرحيل الجابري وهبوا عن بكرة أبيهم إلى المنصة ليأخذوا الكلمة. 

شباب اليوم عليه أن يحمد الله على الفرص الجديدة التي أتيحت أمام الكتابة والنشر والولوج إلى الآخرين، وأن يفهم كيف عانى في الماضي مثقفون وعلماء لم يكونوا يجدون الفرصة التي يجدها الناس اليوم، لم يكونوا يحلمون حتى بواحد في الألف من هذه الفرص. حتى اتحاد كتاب المغرب كان في أيدي الأحزاب السياسية وكان التافهون يحصلون على الشهرة والأدباء الحقيقيون يهمشون. وهؤلاء هم الذين جعلوا من أمثال الراحل محمد شكري كاتبا كبيرا عبقريا بينما كان مجرد حاكي ليست له أي قيمة أدبية على الإطلاق. وهذا الكلام كتبناه عند رحيل شكري قبل عدة سنوات. 

الايديولوجيا تقتل الإبداع والفكر وتجعل المثقف مضطرا لكي يعيش ويحصل على الاعتراف به أن يساير الموجة، ولو كان الجابري ممن اختاروا الكتابة من خارج الحزب ولم تتوفر له إمكانية الانتشار لما عرفه اليوم إلا القليلون، ولما وجدنا من يدافع عنه في الفيسبوك سوى شرذمة قليلين. 

الغرض من هذا كله القول بأن السياسة كانت تصنع الثقافة في الماضي، وأن المال اليوم يصنعها، لذلك تجد اليوم فئة من “الانتلجانسيا” الخاصة تعيش عيشة أميرية وعندما تنشر خزعبلاتها تمسك الهاتف وتنادي على الصحافيين وتطلب مقابلات. 

ولكن الشعب سيبقى.

تعليقات الزوار