مما لا شك فيه أن التكنولوجيا الحديثة وخصوصا في زاويتها المرتبطة بوسائل التواصل الاجتماعي، تحولت إلى وسائط لا محيد عنها ضمن العيش اليومي للأسرة المغربية وبالتحديد بالنسبة للآبناء، حيث اخترقت هذه الوسائل وجدانهم ورسخت تصورات وقناعات سوسيونفسية لديهم يتعذر زحزحتها خاصة وأن هذه الشبكات التواصلية تمتلك من الآليات ما يمكن أن يوفر لهؤلاء الناشئة مجالات لا محدودة من المعارف والصور والأخبار، علاوة على أنها تفتح لهم أبوابا لسلوكات تنزع نحو حرية افتراضية ونوافذ للتعبير باستقلالية عن مشاعرهم التمردية والاحتجاجية بإعانتهم على إسقاط الخوف والتحرر من التردد والتحفظ على الأقل خلال إبحارهم في عالمهم الافتراضي.
وبالطبع فان هذه الممارسات والسلوكات التي يبدو أنها جارية الترسب في نفوس الأبناء، تخلف اثارا لا تخفى على أحد في علاقتهم بذواتهم وأسرهم ووسطهم المجتمعي.
إن ظاهرة الاستهلاك المفرط والتعرض المدمن لوسائل الاعلام، أضحت تسائلنا جميعا وبقوة مما تحمله من مخاطر تمس بالسلامة النفسية والجسدية والذهنية للجمهور الناشئ مما قد يدفع الى الانطواء والعزلة الاجتماعية، وقد تضاعفت حدة هذه الظاهرة وباتت أكثر تعقيدا خلال فترة الحجر الصحي حتى تحولت الى مصدر قلق وتوتر وابتئاس للأسرة بسبب الارتفاع العام لاستخدام وسائل الاعلام السمعية والبصرية والرقمية.
ويتبين مما سبق أنه من التجليات المثيرة على المدى البعيد التي تترتب عن هذه الظاهرة تهديدها لمقومات التنشئة الاجتماعية المتداولة وكذا خلخلتها لمنطلقات التربية الأسرية المتعارف عليها ووضعها في وعاء محك لا تحسد عليه يحاصرها في كل لحظة تفاعل أو تواصل أو احتكاك مع الذهنية المستجدة للأبناء.
إننا اذ نساهم بهذه الخلاصة التركيبية لتصويب نظرنا نحو هكذا أفكار وقضايا تهم هذه الظاهرة، فإننا نطمح وراء ذلك الى إثارة اهتمام أهل الاختصاص وجميع الجهات المسؤولة وتحفيزهم قدر المستطاع للانكباب على معالجة هذا الموضوع بالأولوية التي يستحق نظرا لراهنيته وكوننا معنيين به جميعا من جهة واعتبار لانتظاريته للحسم فيه رغم امتداده في زعزعة تماسك الخلية الأسرية من جهة اخرى.
وإزاء هذا الوضع، ما هي يا ترى السيناريوهات التي يمكن التنبؤ بها في هذا الشأن لتجاوز الآثار السلبية لهذه الظاهرة؟
يبدو أن الأسرة المغربية توجد في مفترق الطرق وأمام خيارين اثنين: اما أنها تتغافل وتتجاهل هذا الواقع وتترك الحابل على الغارب، وهذا اختيار له كلفته الثقيلة لأن التحول التكنولوجي لا مفر منه وسيفرض نفسه على الجميع أسرة ومجتمعا أحب من أحب وكره من كره، وحينذاك سيتجاوز قطار الزمن المترددين أو المشككين في جدوى الركوب على متنه.
أما الخيار الثاني فيتجلى في انتصار الأسرة لمراجعة عميقة لنمط تعاطيها مع هذه الطفرة التكنولوجية والعمل ما في وسعها على احتضان هذه المتغيرات ومضاعفة الجهود للتأقلم بذكاء وحكمة وايجابية بتطوير ذاتها واكتساب مهارات جديدة تؤهلها للتحكم في هذه الوسائل التكنولوجية والانخراط في عالمها بدل ان تكون مستهلكة سلبية. مما يعني انتقال الأسرة من سجل المتفرج الجامد الى دائرة المحاكاة لتصل الى طور الدراية والتمكن.
ويمكن القول إنه خلال هذه المرحلة سيكون بمقدور الأسرة اقتحام فضاء أبنائها بعلم ومعرفة ومشاركتهم هذه التقنيات واختراق عوالمهم وتفهمها، بعدما كانت مناطق محرمة قابلة للاضطراب والتوتر في أية لحظة.
إن الأسرة المغربية بقدر ما تقترب من روح وجوهر التكنولوجيا عوض شكلها الخارجي، بقدر ما ترجح الكفة لصالحها لتسترجع القدرة على تمرير الخطابات المناسبة والرسائل الهادفة التي تصب في مصلحة الأبناء وتصون تماسك الأسرة والمجتمع برمته.
ولا بأس من التذكير أيضا بأهمية تحفيز ذهن الناشئة بنماذج لشباب وشخصيات مغربية وغيرها حققت الريادة والتفوق في المجال التكنولوجي وجعلت منه رافعة للارتقاء بكفاءتها العلمية وتطوير كفاياتها العملية. ونضرب مثلا ببعض الكفاءات المتداول اسمها عالميا خلال الفترة التي نعيشها حاليا كالبروفسور منصف السلاوي والخبير رشيد اليزمي والدكتور سمير ماشور وكمال الودغيري وغيرهم كل في مجال اختصاصه.
وعلى الرغم من تركيزنا على الأسرة في هذا المضمار اعتبارا لأهميتها المركزية في تربية الأجيال فان ذلك لا ينفي الدور الأساسي الذي لا محيد عنه الذي تلعبه المدرسة والتعليم عامة في التنشئة الاجتماعية. وتقاطعا معهذا المنحى يبقى السؤال هو كيفية وحكامة توظيف هذا الزخم التكنولوجي والإعلامي في حقل التعليم والتكوين لفائدة الأبناء للرفع من مردوديتهم وكفاءتهم العلمية والمعرفية عموما وانفتاحهم بيقظة وذكاء على العالم؟
و أخيرا يمكن أن نستخلص أننا أمام إشكالية متشعبة تمس شتى مناحي حياة المواطن و الأسرة فضلا عن ارتباطها بالذهنية العامة و القيم السائدة لدى الفرد المغربي، الأمر الذي يستحثنا على الدعوة إلى التفكير في خلق آلية وطنية تجمع اطراف هذه الظاهرة التكنولوجية من قبيل مخطط وطني مثلا ينتظم في إطاره تصورنا وغاياتنا، ومن شأنه تأهيل الأسرة و المواطن المغربي إعلاميا و اتصاليا، مخطط بأهداف محددة و مسؤولية واضحة و غلاف زمني مضبوط قابل للتتبع والقياس وتقييم نتائجه مع ضمان اندماجه في سياق النموذج التنموي الجديد الذي يوجد في طور التشكل.