منتدى العمق

أسس وآليات التفكير النقدي في فلسفة ديكارت

على سبيل تقديم

لا تستقيم الحياة الواعية بدون ممارسة النقد، فضرورته تتجلى في نقد الواقع السائد في المعرفة والقيم والأخلاق … إلخ، وهكذا فممارسة النقد إضفاء للمعنى، الولوج للتفكير العقلاني، وإحياء الحس النقدي أيضا هو التعبير عن مقارعة الحجة بالحجة.على هذا الأساس سنحاول في هذه الورقة أن نبين كيف مارس ديكارت التفكير النقدي؟

إن إعادة النظر في إشكالية المنهج كألية من أليات النقد هو إعادة للنظر في الأسس التي تقوم عليها المعرفة، وفي هذا السياق شكل المنهج الأساس الاول الذي قامت عليه فلسفة ديكارتDescartes من جهة، وأساسا ثانيا لممارس النقد على المنظومة الأرسطية والتي ينتقد ـ ديكارت ـ فيها المنطق الذي شكل العمود الفقري لنظرية المعرفة أكثر من عشرون قرنا.

لقد شكل العلم الجديد الذي دشنته الثورة الكوبرنية la revolution Copernicienne في الفلك، والثورة الفيزيائية مع غاليلي G .Galilé انهيار الأساس العلمي للمنظومة الأرسطية الذي شكله كل من فلك بطليموس وفيزياء أرسطو، ولم يبقى من هذه المنظومة سوى الأساس الفلسفي الذي كانت ميتافيزيقا أرسطو اساسها. ومن هنا يمكن أن نفترض فرضية تكون بمثابة الموجه في هذه الورقة مفادها: أن لا فلسفة تسقط إلا بسقوط أساسها العلمي، ولا علم يقوم إلا بقيامه على أساس فلسفي.

انطلاقا من هذه الجدلية بين الفلسفة والعلم نقول أن الفلسفة الحديثة لم تظهر نتيجة للعبقرية الديكارتية، بل شكل العلم منطلقه الأساسي، لأنه أدرك أن المنظومة الجديدة لن تقوم إلا بقيامه على أساس ميتافيزيقي متين. وهذا الاساس الميتافيزيقي هو الذي ستشكله الذات المفكرة.

لقد أدرك ديكارت قبل بناء ميتافيزيقاه أن هذه الأخيرة لن تقوم إلا بتأسيس منهج جديد بديلا للمنطق الأرسطي، يعصم الذهن من الوقوع في الخطأ، لذلك شكل المنهج عند ديكارت أداة للتفكير وللنقد اللذين لا يمكن أن يتحقق تقدم بدونهما في نظر ديكارت. فماهي إذن دواعي المنهج عند ديكارت؟

دواعي المنهج

لقد شكل ظهور الفيزياء في صيغتها الميكانيكية، “كما تمت مع غاليلي مدعاة لميلاد أرغانون جديد يعتمد على الرياضيات ويقوم ضد الجدل المدرسي”، الأرسطي، الذي لا يمكن من معرفة الطبيعة. كما شكل أيضا نجاح الرياضيات الذي حققته في زمن ديكارت بفضل دقة منهجها، الدافع الأساسي له لتأسيس الفلسفة بنفس الدقة المنهجية التي اعتمدتها الرياضيات. ومن أجل هذا نظر في العلوم التي درسها ووازن بين حججها وبراهينها فوجد أن أكثرها تأكدا ويقينا هي براهين الرياضيات، ولما كان يعتقد بأن العقل الإنساني واحدا، فإنه لم يجد سببا لهذا الإختلاف بين العلوم في مراتب اليقين، إلا إختلاف المناهج التي يسلكها الباحثون في العلوم المختلفة، وأيقن أنه لو طبق على كل علم المنهج الذي يتبعه الرياضيون في الوصول إلى براهينهم، لبلغت العلوم درجة الرياضة من حيث إستقرار النتائج ولم يبقى شيء يبرر إختلاف العلماء ومجادلاتهم.

لكي يؤسس ديكارت هذا المنهج الجديد كان لا بد له من أن يبين تهافت المنهج القديم، الذي شكل أساس نظرية المعرفة في العصور الوسطى.”ويعتمد أبو الفلسفة الحديثة في رفضه للمنطق الصوري التقليدي على أن قواعد هذا المنطق تشرح معلوما ولا تكشف مجهولا: فلكي نتبين في وضوح أكبر عقم هذا المنهج في معرفة الحقيقة، لنلاحظ أن الجدليين لا يستطيعون تكوين قياس صحيح يؤدي إلى نتيجة صادقة ما لم يكونوا على سابق بمادته، أي بنفس الحقيقة التي يستدلون عليها في قياسهم”. هكذا يتضح بأن المنطق القديم بالنسبة إلى ديكارت عقيم، لا يفيد في البحث عن الحقيقة في العلوم بالتحديد.

ينطلق ديكارت في “المقال عن المنهج” من شمولية العقل أو الفطرة السليمة لكي يتوصل إلى سلامة إستعماله؛ لان الأهم بالنسبة إليه ليس سلامته فقط، بل إستعماله بشكل سليم؛ لأن القدرة على الحكم العقلي الصالح، وتمييز الخطأ من الصواب، يجب أن تنتظم بالمنهج.

لذلك إن أول ما يلزم أي علم، وأية فلسفة، هو بالضرورة بناء منهج جديد. هذا ما أولاه ديكارت الاهتمام، لأنه بعدما رفض المنطق الأرسطي والسكولائي كمنهج، الذي لا يؤدي في نظره إلا إلى التيه. لا بد من تأسيس منهج يشكل الطريقة التي تمكن العقل من بلوغ الحقيقة في العلوم.

يؤكد ديكارت على أن مهمة الفيلسوف ليست هي تعلم الرياضيات أو أشياء أخرى من هذا القبيل، وإنما هي تعويد الذهن على مناهج وطرائق في البحث عن الحقيقة واليقين، عن طريق حسن استعمال العقل. لهذا “فمن دراسة المنهج العلمي وحقائق العلم سننتقل إلى الكشف الفلسفي عن أساس الحقيقة واليقين والوجود. ومن تلك الدراسة الفلسفية سننتقل أخيرا إلى خصائص الوجود الواقعي بوجه عام، والوجود الإنساني بصفة خاصة”.

تأسيسا على ذلك أمكن لنا القول إنه لا بد لكل باحث في فلسفة ديكارت الانطلاق من المنهج الذي يعرفه ديكارت بأنه عبارة عن: “القواعد اليقينية البسيطة التي تضمن لمن يراعيها بدقة ألا يفترض الصدق فيما هو كاذب، وأن يصل إلى علم صحيح بكل ما يمكن العلم به، وذلك بفضل ازدياد مطرد في ذلك العلم، دون القيام بمجهودات لا جدوى منها”. لكن ديكارت أدرك جيدا أن هذا العلم المنشود لن يكتمل دون قيامه على أساس فلسفي متين.

ففي هذا السياق الداعي إلى ضرورة الانطلاق من المنهج وجدنا ألكسندر كويري يقول: “لم تكن الكتب في المنهج نادرة لعهد ديكارت وأحدثها عهدا “النمطق الجديد” لبيكون، جاء هو أيضا بمنهج جديد، منهج يؤدي إلى علم جديد، إلى علم معارض للعلم النظري القديم، ولقد أعلن ديكارت من ناحيته هذا العلم الجديد الذي كان ينتظر منه تغيير الحياة الإنسانية وإقامة الإنسان “سيدا ومالكا للطبيعة”. ولكن ديكارت لم يقتصر على إعلانه بل جاء هو بذلك العلم الجديد وأعطانا نتائج. لم يكن منهجه مجردا ولكنه كان يلخص تجربة حقيقية ويصوغها في قانون، وهذه التجربة هي التي كانت تبرهن على قيمته وتسمح بتفهم المعنى الحقيقي العميق للقواعد المبهمة التي نجدها في المقال”. فماهي هذه القواعد؟

يحدد ديكارت في كتاب المقال عن المنهج أربع قواعد لقيادة العقل لبلوغ اليقين في العلوم وهي كالتالي:
القاعدة الأولى: البداهة يقول فيها ديكارت:” أن لا اقبل شيئا ما على أنه حق، ما لم أعرف يقينا أنه كذلك: بمعنى ان اتجنب بعناية التهور، والسبق الى الحكم قبل النظر، وأن لا ادخل في احكامي إلا ما يتمثل لعقلي في جلاء وتميز، بحيث لا يكون لدي أي مجال لوضعه موضع الشك”. إذ يتضح من خلال هذه القاعدة دعوة ديكارت إلى التحرر من الاحكام المسبقة، ثم عدم التسرع في إصدار الاحكام ما لم نخضعها للعقل، وهذا الاخير يبلغ المعرفة اليقينية عبر الحدس العقلي، اي انه يدرك حقيقة الشيء بدون شك فيها. وبالتالي فإن هذه القاعدة مطلبها البداهة واليقين والوضوح ثم التميز.

القاعد الثانية: التحليل التي يؤكد فيها ديكارت على “تقسيم كل واحدة من المعضلات التي أختبرها إلى اجزاء على قدر المستطاع، على قدر ما تدعو الحاجة إلى حلها على خير الوجوه”. ويتضح من خلال هذا القول ضرورة تقسيم كل المشكلات التي تعترضنا إلى أجزاء صغيرة حتى يسمح لنا دراستها بشكل واضح ومتميز.

القاعدة الثالثة: التركيب والتي يقول فيها صاحبنا فيها:”أن اسير أفكاري بنظام، بادئا بأبسط الأمور وأسهلها معرفيا كي أتدرج قليلا قليلا حتى أصل إلى معرفة أكثرها ترتيبا، بل وأن أفرض ترتيبا بين الأمور التي لا يسبق بعضها الأخر بالطبع”. ويتبين لنا من خلال هذه القاعدة البدء من البسيط نحو المعقد في ترتيب الحقائق والافكار.

القاعدة الرابعة: المراجعة/ الإحصاء القائلة “أن أعمل في كل الاحوال من الإحصاءات الكاملة والمراجعات الشاملة ما يجعلني على ثقة من أنني لم أغفل شيئا”. ويوضح فيها ديكارت إلى التأكد من أننا لم نغفل أي جزء من اجزاء المشكلة التي قمنا بتقسيمها من جهة، وحتى نتعود على البرهان من جهة ثانية.

بناء على هذه القواعد يتضح أن المنهج الديكارتي يقوم على أساس الوضوح والتميزفي التفكير وذلك عن طريق البداهة العقلية.

هكذا سعى ديكارت من خلال “المقال عن المنهج” إلى بناء فلسفة تستطيع أن تمنح السلطة في تحديد الأسس الجوهرية للذات المفكرة المنتجة للعلم. فالمنهج إذن شكل لدى ديكارت الطريقة الأمثل للتحرر من الأحكام المسبقة. وهكذا أصبحت المعرفة منذ هذه اللحظة تتأسس على البداهة، والوضوح، أي وضوح الفكر المنظم بطريقة منهجية.

ونخلص من خلال القواعد الأربعة التي شكلت جوهر المنهج الديكارتي على أنها ضرورية للعقل إن هو أراد الوصول إلى معرفة يقينية. وأن هذه القواعد تنحل في نهاية الأمر إلى قاعدة واحدة هي قاعدة البداهة والوضوح التي يؤدي تطبيقها إلى ممارسة الشك المنهجي والميتافيزيقي في الفلسفة.

الشك المنهجي كألية للتفكير النقدي

يجدر التأكيد على أن الحديث حول الشك هو حديث عن يقينية العلم، وهذه المقولة هي التي استوجبت بناء الميتافيزيقا بما هي فلسفة للعلم، وهذا الأخير يتجلى في المنظور الديكارتي في الممارسة الرياضية والفيزيائية. لكن الأمر يقتضي إقرار ذات مفكرة لأجل ممارسة العلم بشكل صحيح. هذا إذن رهين ببناء الميتافيزيقا بشكل عام، لأنه يتعلق أساسا بالدقة والصرامة؛ حيث إن ما يفكر فيه العقل يطابق شيئا خاريجيا. وفي هذا الصدد يعترضنا إشكال مفاده، كيف نثبت أن الإنسان هو جوهريا ذات مفكرة؟

تأسيسا على طلب المعرفة لذاتها، إن وحدة العلوم تضيء وحدة المعرفة الإنسانية التي تبقى بدورها مساوية لذاتها، لهذا “إنْ استلهامنا روح “التأملات” ونصها ونص “المبادئ” أيضا، فَهِمنا أن الفيلسوف لا يبحث عن موضوعات خارجة عن النفس بعيدة الموطن، ولا عن مواد تصلح لبناء العلم وإنشائه، وإنما عن مبادئ في النفس ذاتها مبادئ أولى يقوم فيها اليقين النظري المطلق، اليقين العاصم من الأخطاء”. يجرنا هذا القول إلى الإجابة ضمنيا عن الإشكال السابق، وذلك من خلال تعميم الشك حسب ديكارت على كل شيء لا يملك صفة اليقين المطلق. لكن هذا الأمر يتطلب أكثر من حياة، إذا ما أردنا أن نفحص كل فكرة على حدى، لهذا يكفي أن يعترضنا ولو أدنى شك حتى نشك في كل الأشياء، وفي مصادر الأحكام، وفي الحواس، بل حتى في الخيال والأحلام على حد تعبير ديكارت. هكذا يتخذ الشك منذ البداية في التأمل الأول من كتاب “التأملات” صفة الإطلاقية. مما جعله شك ينفذ إلى عمق وأسس كل الأفكار والمعرفة، لهذا فالشرط الأساسي لمبدأ الشك الديكارتي هو مبدأ الإطلاقية والشمولية.

إن ما يجعل من الشك المنهجي يتميز بصفة الشمولية وهو أنه ينصب على جميع الأراء الجاهزة والأحكام المسبقة،” لأن كلما تلقيته حتى الآن، على أنه أصدق الأمور وأوثقها، قد اكتسبته بالحواس أو عن طريق الحواس. غير أني وجدت الحواس خداعة، في بعض الأوقات، ومن الحكمة ألا نطمئن كل الاطمئنان إلى من يخدعنا، ولو مرة واحدة”، ومنه فالشك إذن ينصب على كل المعارف؛ صحيحة كانت أم خاطئة. لهذا قلنا أنه شك يتجاوز المضمون إلى الأساس. مما يتأكد أنه في ميدان النظر الفلسفي لا نلجأ إلى معايير الحس والحياة اليومية. لذلك كان من الضروري الانطلاق من الشك في تأسيس المعرفة اليقينية من مصدر المعرفة في السابق. ثم إن لهذا الشك مراحل تنظمه من الأبسط إلى الأعقد، تؤدي في نهايتها إلى نتيجة قد تكون سلبية نقف عندها، وقد تكون إيجابية تفتح أمامنا الطريق إلى القين الفلسفي الكامل”.

بعدما قرر ديكارت إذن أن يرفض كل المذاهب الفلسفية السابقة عليه، وأن يشك في كل مبادئ المعرفة، حاول أن يجد مبادئ أخرى يقينية يمكن أن نؤسس عليها معرفة حقيقية. واعتبر الشك هو العزم على عدم الالتزام بالأحكام المذكورة، سواء كانت صادرة عن تعاليم ماضية لم نتبين صحتها أو عن الحس أو عن الخيال. فمثلا في النوم قد تظهر لنا أشياء لا تقل قوة عما نراه في اليقظة، بل حتى يصعب التمييز بينهما، وما يؤكد هذا الطرح هو قول ديكارت التالي:”Eh bien donc, admettons que nous revons, et que les choses particulièreslà, que nous ouvrons les yeux, remouns la tête, tendons les mains, ne sont pas vraies, que peut être il n’est pas vrai que nous avons de ces mains, et tout ce corps. Toutefois il faut bien avouer que ce qu on voit pendant l’assoupissement est comparable à des images peintes qui n’ont pu être inventées qu’à la ressenblanee de choses vraies…”. من خلال هذا القول الفلسفي يتضح أنه إذا لم نسلم بأن الحواس تخدعنا فما يدرينا بأننا نحلم. لكن يتضح بعد ذلك أن كل هذه الأشياء هي فقط من نسج الخيال، فإنه مع ذلك لا بد وأن هناك أشياء أخرى موجودة،”

ومن قبيل هذه الأشياء الطبيعية الجسمانية على العموم وامتدادها وأيضا شكل الأشياء الممتدة وكمها أو مقدارها وعددها، وكذا المكان الذي تشغله والزمان الذي تدوم فيه وما شاكل ذلك (…) في حين أن الحساب والهندسة وما شاكلهما من العلوم التي لا تنظر إلا في أمور بسيطة جدا وعامة جدا، دون اهتمام كبير بالوقوف على مبلغ تحقق هذه الأمور في الخارج أو عدم تحققها، وإنما تشتمل على شيء يقيني لا سبيل إلى الشك فيه: فسواء كنت متيقظا أو نائما، هناك حقيقة ثابتة وهي مجموع اثنين وثلاثة هو خمسة دائما وأن المربع لن يزيد على أربعة أضلاع أبدا(…)”. هكذا يبدو في نظر ديكارت أن هناك علما واحدا يمكن للإنسان أن يعتمد عليه، وهو العلم الرياضي أو الرياضيات، لتفادي الوقوع في الخطأ. ومع ذلك فإن معتقد قد رسخ في ذهني منذ زمن طويل وهو أن هناك إلها قادرا على كل شيء، وهو صانعي وخالقي على نحو ما أنا موجود، لهذا جعلني أتخيل كل هذا على أنه موجود، وقد يكون هو من قدر أن أُخطئ كلما حاولت جمع اثنين وثلاثة، أو حتى في أشياء أخرى أسهل. هكذا إذن فهو قادر على أن يُظهر لي مثل هذه الأشياء، ويجعلني أخطئ في أوضح البراهين الرياضية.

وتأسيسا على هذا الافتراض يصل ديكارت إلى أنه لا يمكن أن تتفق فكرة الإله الخادع مع الفكرة التي كانت لديه عن الإله في السابق، لهذا يمكن أن نفترض افتراضا آخر مفاده أن هناك كائن غير الله، لكنه في حدود كماله، ثم إنه ماكر، لذلك يمكنه أن يسيطر على أنفسنا ويخدعنا في كل الأمور البسيطة والمعقدة أيضا.

إن تجربة الافتراض المسمى بـ “الشيطان الماكر”، اتخذها ديكارت لكي يذهب في تجربة الشك إلى أبعد مدى، إلى أن يصل إلى حد لا يمكن الشك في أي شيء آخر. أو بعبارة أدق عندما يصبح الشك نفسه مقبولا. لكن سرعان ما يتخلص ديكارت من هذا الافتراض” لأنه سأفترض أن السماء والهواء (…) لا تعدو أن تكون أوهاما وخيالات قد نصبها ذلك الشيطان فخاخا لاقتناص سذاجتي في التصديق(…) وبالتالي فمهما أوتي من القوة والخداع لكي يضللني فلن يستطيع أن يخدعني بأنني أشك.

تأسيسا على ما سبق يتضح أن ديكارت وجد نفسه أمام تطبيق مبدأ الشك على كل شيء: الحواس، الذاكرة، الأحلام، وجود العالم الخارجي، بل حتى في صدق الرياضيات. وذلك لأن خطة الشك تبقى في نظره هي الخطة السليمة، لأنها تضمن على الأقل لكل باحث عن اليقين عدم الوقوع في الخطأ. وبالتالي أمكن القول إن الشك الديكارتي يتلخص أساسا في البحث عن مبادئ يقينية يمكن أن تقام عليها العلوم. لهذا الاعتبار إذن شكل الشك المنهجي المرحلة الأولى. لأن دلالته أعمق، إذ يمكن الفيلسوف من شق الطريق نحو الاكتشاف الفلسفي.

ومن هنا نخلص إلى أن الشك الديكارتي يعد خطوة من خطوات المنهج من جهة، كما يعد ممارسة للتفكير النقدي في نقده لأرسطو في المنطق (نظرية القياس) وفي الميتافيزيقا أيضا (كالبحث عن وجود الله مثلا). وبهذا كان طموح ديكارت إيجاد منهج يصبح أساسا لكل العلوم. لذلك ينظر عادة إلى ديكارت في تاريخ الفلسفة كمؤسس فعلي للفلسفة الحديثة بما أنه إنطلق من التفكير بماهو الخاصية الأساسية للإنسان من جهة، وفصله عن اللاهوت وجعله أصل الوجود من جهة ثانية. بهذا أراد أن يتحرر من فلسفة ارسطو، ثائرا على الفلسفة المدرسية التي تعلمها في المدارس المسيحية التي كانت فلسفة أرسطو تشكل دعامتها الأساسية، مبشرا بولادة شيء جديد في مجال العلم بل حتى في الميتافيزيقا.

ما يمكن أن نستخلصه من هذا الدرس الديكارتي في المنهج، هو أن المنهج يعتبر بمثابة بوابة الحداثة الغربية بعد الثورة العلمية، لكن ما كان لهذه الأخيرة أن تصير إلى ماهي عليه لولا التأسيس الميتافيزيقي الذي بدأه ديكارت منذ كتاب “المقال في المنهج” لكي يكتمل في كتاب “التأملات”.إننا اليوم إذن في حاجة ماسة إلى درس ديكارت في المنهج، بل وفي ميتافيزيقاه بأكملها، لماذا؟

في مجمل ما يكتب اليوم هو حديث حول كيف ندخل إلى الحداثة، بل وأن عناوين التب التي تتضمن الحداثة في الفكر العربي لا تعد بالمئات، لكن ما لم يتسأل عنه الكاتب والمفكر العربي هو إشكالية المنهج، التي تعتبر البوابة الأولى للتحول في الفكر. فهل يمكن أن نستثمر الثورة الديكارتية في المنهج اليوم كمحاولة للحاق بالركم؟ هذه أسئلة لا يمكن أن نجيب عنها حتى نحقق ثورة علمية قادرة على أن تزعزع الأفكار المسبقة التي عششت في أ ذهاننا ونحتكم إلى مبدأ البساطة في الفكر، أنذاك يمكن إستثمار المنهج الديكارتي كأساس لبناء حداثة عربية.

لائحة المراجع بالعربية:
ديكارت رينيه ، المقال عن المنهج، ترجمة محمود محمد الخضيري، مراجعة وتقديم الدكتور مصطفى حلمي، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر بالقاهرة، الطبعة الثانية، سنة 1968.
ديكارت رينيه. تأملات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى تثبت ان الله موجود أن نفس الإنسان تتميز من جسمه. ترجمة كمال الحاج. منشورات عويدات بيروت ـ باريس. ط الثانية.
ديكارت رينيه. تأملات في الفلسفة الأولى . ترجمة وتقديم وتعليق عثمان أمين. تصدير مصطفى لبيب. المركز القومي للترجمة .القاهرة 2014.
كويري الكسندر، ثلاث دروس في ديكارت: ألقاها بقاعة الجمعية الجغرافية الملكية ، ترجمة يوسف كرم، المركز القومي للترجمة، القاهرة مصر، سنة 2014.
بلدي نجيب، نوابغ الفكلر الغربي: ديكارت ، دار المعارف ، ط الثانية.
جنفياف روديس لويس، ديكارت والعقلانية، ترجمة عبده الحلو، منشورات عويدات، بيروت ـ باريس، الطبعة الرابعة 1988.
عبد السلام بن عبد العالي وسالم يافوت. درس الإبستمولوجيا. دار توبقال الدار البيضاء ـ المغرب.الطبعة الأولى 2001.
R.Descartes.Méditations métaphysiques.présentation et tradduction de Michelle bessad .le livre de poche . classique philosophie.

* باحث في الفلسفة والعلم