وجهة نظر

أين حزب العدالة والتنمية مما وقع من إساءة لخير البرية؟

في الأيام الأخيرة شنت فرنسا حملة ممنهجة ضد المسلمين ومقدساتهم، وذلك من خلال التضييق على مسلمي فرنسا وإغلاق المساجد، ومحاولتها لإرجاع أزمتها التي تعيشها إلى الإسلام، بل وصلت بها درجة الوقاحة إلى أن تجرأت على نشر رسوم مسيئة لنبينا الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.

ومنذ بداية هذه الحملة الممنهجة، لو سألت أي مغربي عن أول حزب يمكن أن يخرج ببلاغ يندد بهذه الحملة الممنهجة ضد الإسلام والمسلمين وضد مقدساتهم؟ سيكون الجواب حتما: حزب العدالة والتنمية، لأسباب عدة كونه ذا مرجعية إسلامية لطالما ملأ الدنيا بالحديث عنها، ولكونه امتدادا للحركة الاسلامية. إلا أنه للأسف منذ بداية هذه الحملة، التزم الحزب الصمت، ثم ما لبثت أن رأينا البلاغات المنددة تصدر تباعا، فهاهو المجلس العلمي الأعلى يعلن عن تنديده، ثم أصدرت اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال بدورها بلاغا وكذلك شبيبته، وظل السؤال يطرح آنذاك أين العدالة والتنمية من هذا كله؟ ثم بشكل فاجأ وشرف الجميع أصدرت وزارة الخارجية بلاغا شديد اللهجة تندد فيه بتلك الأفعال الخرقاء لفرنسا، ثم أصدرت اللجنة الوطنية لشبيبة العدالة والتنمية بلاغا ضمنته استنكارها لتلك الممارسات الغير أخلاقية لفرنسا.

لكن هل بلاغ الشبيبة سيعفي الحزب من التعبير عن موقفه، بالتأكيد لا، المؤسف أن يصدر حزب الاحرار- الذي طالما بنى بعض رموز الحزب شرعيتهم على انتقاده – بلاغا منددا بتلك الأفعال المسيئة للإسلام والمسلمين في حين مازال حزب العدالة والتنمية خارج مقتضيات اللحظة التاريخية. فأين هي خطابات المرجعية الإسلامية؟ أين خطابات الدفاع على ثوابت الأمة والوطن؟

إن كان الحزب الذي يرأس الحكومة غير قادر حتى على إصدار بلاغ أو بيان يدعم فيه توجه الدولة في دفاعها عن المقدسات، فماذا سننتظر من هذا الحزب في المستقبل؟ وهل يمكن اعتبار تمرير قانون فرنسة التعليم بداية التنصل من كل الالتزامات الفكرية والعقائدية التي نسج بها الحزب وجوده وبنى شرعيته؟ وهل اكتشف الحزب متأخرا أنه تورط فيما سماه أحد كتبته الجدد ب”النزعة الهوياتية”؟ وأنه كان ضحية أوهام ايديولوجية صنع بها جزءا هاما من امتداده الشعبي وتموقعه الجماهيري؟ وهل سيتحول بقدرة قادر، ودون كلفة الإعلان عن مراجعة فكرية صريحة مع الذات ومع الأنصار، إلى مجرد حزب برغماتي كل همه التركيز على المقاربات التقنية والنسب والمؤشرات،أي مجرد نسخة مكررة من المشهد الحزبي العقيم؟

قد يقول قائل “أن الأمانة العامة قد أصدرت بلاغا يتضمن تنديدا واستنكارا للإساءة لنبينا الكريم، وأنه أن تأتي متأخرا خير من ألا تأتي” إلا أن السياق هنا مختلف تماما، فهل التنديد بالإساءة للنبي يتطلب كل هذا الانتظار؟ ثم في الأخير ماذا، بدل أن تصدر الأمانة العامة بلاغا خاصا بالتنديد واستنكار الأفعال الصبيانية لفرنسا، اختارت أن يتزاحم هذا التنديد مع قضايا أخرى في بلاغ واحد. إن التعبير عن المواقف يكون هدفه تأطير المواطنين ورسم الخطوط الحمراء وإسناد الدولة في اتخاذ قرارات جريئة وشجاعة، أما الخروج بعد مرور أسبوع وأكثر عن الحدث فهذا لا يعدو أن يكون إلا في إطار إبراء الذمة دون أي حمولة مبدئية أو تأثير.

بلاغ الأمانة العامة كان ليكون ذا تأثير حقيقي لو سبق بلاغ وزارة الخارجية، لأن الدولة المغربية في أمس الحاجة لأحزاب قوية توفر لها الإسناد اللازم قبل التعبير عن مواقف قوية للخارج، نعم فالدولة في حاجة دوما لأحزاب وطنية تساندها في مواقفها السيادية، وتكون مجندة وراءها في الدفاع عن مقدسات الدين وثوابت الوطن. فما قيمة هذا البلاغ المحتشم للأمانة العامة بعد أن أصدرت وزارة الخارجية بلاغها القوي قبل ذلك بأيام؟

أليس من حقنا أن نرى في خرجة بنكيران الأخيرة المفاجئة التي كسر بها صمته لشهور، محاولة لحفظ ماء وجه الحزب الذي أخلف موعده مع التاريخ؟ أليس حريا بالأمين العام الحالي للحزب ورئيس الحكومة هو نفسه من يبادر إلى خرجة قوية ومؤثرة كخرجة بنكيران؟ أليس من المخجل أن ننتظر دوما خرجات بنكيران لتشفي الغليل وتعيد قدرا يسيرا من الهيبة والحضور للحزب؟

كان يفترض على حزب العدالة والتنمية الذي انبثق من الشعب، والذي يحمل المرجعية الإسلامية، أن يكون رائدا في استكمال مشروع التحرر الشامل الذي طرز به وثائقه التأسيسية، بل وكان مبرر وجوده التنظيمي السابق للإطار الحزبي، بدعوى استكمال عملية التحرير التي بدأتها الحركة الوطنية.

إذا كان للحزب أن يستفيد من تجربة التاريخ، فقد سبقته أحزاب أخرى كانت تعتبر نفسها قوى شعبية، وطليعة جماهير، وحركة تحرر وطني وعالمي، فانتهى بها الأمر، بعد مسيرة طويلة من التخفف المتوالي من أثقال المبادئ والالتزامات، بدعوى التكيف مع الاكراهات، وتجاوز الجمود المذهبي، والتموقع السياسي، إلى أن أصبحت عارية تماما من كل ما كان يدل على أصلها ومنشأها، وأصبحت صورة مشوهة عن ماضيها، طبعا مع تراكم مكاسب أعضائها وامتيازاتهم، وبذلك يتحول المشروع الإصلاحي الكبير إلى مجرد مشاريع للتموقع الشخصي والترقي الاجتماعي.

وإذا كان الحزب يبرر تغاضيه عن التعبير على مواقفه من بعض القضايا بدعوى مراعاة السياق السياسي الوطني أو الدولي، فبأي حجة سيتعلل الآن وقد عبرت الدولة والأحزاب عن موقفها بشكل واضح وصريح؟
ألا يمكن أن يدل ذلك على حجم الرقابة الذاتية التي أصبحت حالة مرضية لدى الحزب، بحيث أصبح يخشى على مكاسبه الوهمية من أي رد فعل حتى ولو كان ثمن ذلك فقدان معنى وجوده نفسه؟

يبدو أن زمن إصلاح ما فات يتقلص تدريجيا أمام حالة التمادي في الأخطاء و ركوب مسار التعنت واحتقار القواعد والجماهير التي هي الركيزة الأولى لأي تنظيم، فالنخب سرعان ما تستمرأ قربها من مركز القرار فتنسى أنها إنما وصلت عبر نضالات وعلى أساس التزامات، وتظن أنه أصبح بإمكانها تجاوز القيد الشعبي لوجودها بالبحث عن شرعية من فوق، ويسهل تبرير ذلك بطبيعة الحال بكونها مطلعة أكثر و تستطيع أن تبصر المصلحة الراجحة،عكس الجمهور البسيط الساذج الذي ينبغي أن يسمع ويطيع،وهنا تكون قد أصابت نفسها في مقتل.

إن تحلل النخب من تعاقدها مع الشعب يجعله أيضا في حل من اتباع الزعامات الفارغة التي استغفلته ذات يوم فتركها تسقط كأوراق الخريف، وتلك قصة متكررة خلال عقود من السياسة في المغرب، يبدو أنها مازالت تعيد نفسها كل مرة.

إلا أن الحظ حالف العدالة والتنمية مرة أخرى بانبثاق مبادرة النقد والتقييم من قواعد الحزب بغية تفادي سقوط الحزب في مصير أحزاب الحركة الوطنية، فهذه فرصة ذهبية لقيادة الحزب لاستدراك ما يمكن استداركه قبل أن نعلن فوات الأوان.

قال الله عز وجل: “إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ”