لنا ذاكرة

حقيقة أم مجرد أسطورة؟.. طارق بن زياد وخطبته الشهيرة وقصة إحراق السفن

قصة إحراق القائد العسكري الأمازيغي طارق بن زياد للسفن من أجل تحفيز الجيش على القتال وقطع الأمل في الرجوع، خلال فتح الأندلس، وإلقائه خطبته الشهيرة ببلاغتها المتينة كما أوردتها بعض المصادر التاريخية، من القصص التي تداعب مشاعر المغاربة وتجعلهم يفخرون بالانتماء إلى بلدهم، فهل فعلا أحرق طارق بن زياد سفنه؟ وهل ألقى تلك الخطبة الشهيرة أم أنها نسبت له فيما بعد؟ ماذا لو كانت أخيلة المسلمين الميالة إلى الأمجاد والبطولية وراء تأليف هذه القصة؟

المصادر الأولى

يعد كتاب “تاريخ افتتاح الأندلس” من أقدم المصادر التاريخية التي أرخت لافتتاح الأندلس، لكنه لم يذكر بالمرة قصة إحراق السفن: “فلما دخل طارق بن زياد.. كتب لذريق إلى أولاد المالك غيطشة.. يدعوهم إلى مناصرته وأن تكون أيديهم واحدة على عدوهم.. فلما تقابلت الفئتان أجمع المند وأخواه على الغذر بلذريق.. فلما أصبحو انحازوا بمن معهم إلى طارق فكانوا سبب الفتح”.

“وكان دخول طارق للأندلس في رمضان. ولما جاوز طارق وسار بعزوة الأندلس كان أول ما افتتحه مدينة قرطاجنة بكورة الجزيرة فأمر أصحابه بتقطيع من قتلوه من الإسراء… ثم تقدم فلقي لذريق… ثم تقدم إلى استجة وإلى قرطبة، ثم إلى طليطلة”، حسب ما ورد في “تاريخ افتتاح الأندلس”، كذلك كتاب “أخبار مجموعة في فتح الاندلس” لصاحبه إبراهيم الأبياري لم يورد أي ذكر لقصة إحراق السفن.

في المقابل أورد قصة إحراق السفن أبو عبد الله محمد الإدريسي صاحب “نزهة المشتاق” الذي لم يعاصر فترة فتح الأندلس، فكيف غاب هذا الحدث البالغ الأهمية عن المؤرخين السابقين وعرفه الإدريسي؟

لكن إذا كانت قصة إحراق السفن غير صحيحة فلماذا قال طارق بن زياد في خطبته عبارة “البحر من ورائكم”، رغم أن العديد من المؤرخين شككوا في مدى قول طارق لهذه الخطبة أصلا، الباحث عبد الحليم عويس، في كتابه “إحراق طارق بن زياد للسفن أسطورة… لا تاريخ”، يجيب عن هذا السؤال بكون هذه العبارة لا تدل بالضرورة على إحراق السفن لأن وجود السفن لا يمكن أن يحول البحر برا، بل إن الخطبة التي نسبت إلى طارق بن زياد ووردت في كتاب “نفح الطيب” لم تظهر إلا بعد قرون من فتح الأندلس.

السفن

نفى العديد من الباحثين قصة إحراق السفن. واستدلوا على ذلك بكون السفن التي عبر بواسطتها جيش طارق بن زياد ليست في ملكيته بل إنها كانت لجوليان ملك إمارة سبتة. أما عبارة البحر من “ورائكم” فتوحي بأن السفن ليست في ملكية المسلمين، هذا بالإضافة إلى استحالة تصرف القائد المغربي طارق بن زياد في سفن لا يملكها.

ومن بين الدلائل أيضا التي قدمت في هذا الاتجاه؛ قصة الجاسوس التي وردت في الكتب التاريخية، ذلك أن لذريق الملك الإسباني بعث جاسوسا اندس بين جيوش طارق لكن المسلمين أحسوا به فأعدوا خطة لإرعاب الإسبان. هكذا أمر طارق بن زياد عناصره بطبخ لحوم الموتى من الأسرى في القدور، ثم التخلص منها واستبدالها بلحوم البقر حتى يتوهم الجاسوس بأن هؤلاء يأكلون لحوم البشر. من خلال هذه القصة يذهب العديد من الباحثين إلى أن قصة إحراق السفن مجرد تمويه مثله مثل قصة أكل لحوم البشر.

وكان طارق بن زياد قبل خوض المعركة قد اضطر إلى طلب العون والمدد من موسى بن نصير عندما رأى كثرة جنود القوط كما ذكرت ذلك المصادر التاريخية، فأمده موسى بن نصير بخمسة آلاف جندي عبرت بهم السفن إلى الأندلس، فعلى فرض ما يروى من صحة إحراق السفن؛ فكيف كان سيصل المدد الذي أرسله موسى بن نصير إلى طارق بن زياد؟ وكيف وصل مبعوث الأخير إلى ابن نصير، ثم كيف عاد طارق بن زياد بجيشه الذي بلغ ثمانية عشر ألفا بعد ذلك بسنة واحدة؟ مع العلم أن فرصة سنة واحدة لا تكفي لبناء أسطول قادر على نقل كل الجنود إلى الضفة الأخرى، بالنظر إلى الإمكانيات المتوفرة آنذاك.

من جهة أخرى فقد كان فتح الأندلس قد بدأ في السنة الثانية والتسعين للهجرة وانتهى بعد ثلاث سنوات ثم عاد طارق بن زياد وموسى بن نصير إلى المغرب.في حين المصادر التاريخية التي تحدث عن الفتح لم تظهر إلا في القرن الثالث الهجري وهي فترة طويلة. ومع ذلك فقصة إحراق السفن لم تظهر إلا في القرن السادس الهجري.

أما من الناحية التاريخية فكيف يعقل أن يقطع طارق بن زياد الأمل في الرجوع ويتيقن من انتصاره مع العلم أن جيش لذريق يفوق جيشه ثلاث مرات، ومن الروايات من قالت بأنه يفوقه تسع مرات.

من بين الأمور التي فتحت باب الخلاف في هذه القضية وتركت هامشا كبيرا للذين يثبتونها هو غياب المصادر التاريخية الأندلسية، لأن الكثير من المخطوطات التي تتعلق بهذه الفترة أتلفت بشكل متعمد من طرف بعض المتعصبين، إذ أحرق ما يزيد عن ألف كتاب عربي.

قصص مشابهة

ذكرت بعض القصص في كتب التاريخ شبيهة بإحراق طارق بن زياد لسفنه، كلها تدور حول إحراق القادة لسفنهم ووضعهم جيوشهم أمام مأزق النصر أو الموت، منها قصة القائد الفارسي “وهرز”، التي أوردها الطبري، حيث أحرق مراكبه حين ساعد سيف بن ذي يزن على تحرير اليمن والانتصار على الأحباش. كما ألقى هو الآخر خطبة في جنوده على النحو الذي ذكره بعض المؤرخين فيما بعد في افتتاح الأندلس.

التاريخ الإسباني هو الآخر يضم قصة مشابهة، عندما ذكر أن القائد الإسباني أرنان كورتس، خلال غزو إسبانيا للمكسيك، قد عمد إلى إحراق سفنه وخطب في جنوده خطبة شبيهة بخطبة طارق بن زياد. ومن هذه الأحداث أيضا ما روي عن فاتح صقلية أسد بن الفرات الذي أراد حرق سفنه لما ثار عليه بعض جنوده وطالبوه بالانسحاب.