مجتمع

الانتقام الإباحي.. حينما يتحول الفضاء الرقمي إلى مقبرة رمزية للنساء

“نقتل راسي هذا هو الحل باش نخرج من هذا المشكل”، هكذا تلخص نجاة (اسم مستعار)، ابنة مدينة تطوان، كابوسها الذي عاشته لمدة تقارب الشهرين ولا زالت ندوبه مستمرة وربما سيظل يطاردها طيلة حياتها، بسبب “الانتقام الإباحي”.

الشابة البالغة من العمر 19 سنة، والتي بدت شبه منهارة نفسيا، روت بداية قصتها مع شاب جمعتهما علاقة ابتدأت بما اعتبرته الضحية “حبّا”، لكنه انتهى بمأساة تهدد استقرارها النفسي والاجتماعي، خاصة في ظل تعرضها لتهديدٍ بالقتل من طرف الجاني.

تقول “نجاة” في هذا الصدد وهي تذرف الدموع: “بعدما قضينا لحظات مزيونة، صدمني ملي طلب مني نسلملو راسي باش يقضي نزواته، وملي رفضت هددني بنشر صوري لي تلاعب بها وأظهرني في أوضاع مخلة بالحياء”.

وعلى عكس أغلب الحالات التي تعاني في صمت وترفض التبليغ، جاء طوق النجاة لنجاة على يد صديق لها أقنعها، بعد شهرين من مكابدة العذاب، باللجوء إلى جمعية نسائية لمساعدتها بعدما سبق له أن حضر ورشة تحسيسية حول موضوع “الانتقام الإباحي”.

وبعد أن خضعت الفتاة لجلسة استماع مع جمعية “المرأة المناضلة” بمدينة تطوان، تجاوزت تخوفاتها وتحدت المخاطر المحتملة من طرف أسرتها والمجتمع، لتقتنع في النهاية بضرورة اللجوء إلى القضاء لوقف هذا الكابوس الذي حول حياتها إلى جحيم.

ورغم أن نجاة امتلكت الجرأة والشجاعة في النهاية من أجل اللجوء إلى القضاء، إلا أن هناك فتيات أخريات يعانين ويقبعن في غياهيب الصمت المؤلم جراء غياب التوعية والتحسيس بضرورة التبليغ عن مثل هذه الجرائم التي أدرجها المشرع المغربي ضمن ما يسمى بـ”الابتزاز الإلكتروني” أو ما يصطلح عليه “بالانتقام الاباحي”.

كما أن هناك حالات أخرى، بلغ بها مستوى الضغط والقهر النفسي جراء ما تعرضت له من ابتزاز، إلى حد التفكير في إنهاء حياتها بشكل مأساوي، كأسهل حل، في نظرها، للهروب من مواجهة الجاني والأسرة والمجتمع.

أرقام مقلقة

يُعرَّف الإنتقام الإباحي على أنه نوع من الجريمة الإلكترونية التي يقوم فيها شخص ما كان على علاقة بشخص آخر بآستخدام صور وفيديوهات أو غيرها من المواد التي سبق التقاطها برضا الطرفين، وذلك من أجل ابتزاز الطرف الآخر.

ويتعلق الأمر بالقيام بأفعال جنسية، أو إكراه الضحايا على الاستمرار في العلاقة، أو لمعاقبتهم على إنهاء العلاقة، أو لإسكاتهم وإحراجهم أو للتشهير بهم، أو ربما ضمن ابتزازات سياسية أو حقوقية، أو فقط رغبة في الابتزاز المالي من طرف قراصنة إلكترونيين.

وفي هذا الصدد، أظهرت دراسة للمجلس الوطني لحقوق الإنسان بالمغرب شملت 180 حكما قضائيا يتعلق بقضايا العنف ضد النساء، أن الإنتقام الإباحي يتصدر القائمة بنسبة 31 في المائة.

كما أظهرت دراسة رسمية أخرى أصدرتها المندوبية السامية للتخطيط، أن استعمال التكنولوجيات الحديثة للمعلومات والاتصال ساهمت في تزايد العنف ضد النساء بمعدل 19 في المائة بجميع أشكاله.

وكشف الدراسة ذاتها أن خطر تعرض نساء المدن للعنف الرقمي يصل إلى 16% والفئات المتراوحة أعمارهن ما بين 15 و19 سنة يصل إلى 29%، واللائي لديهن مستوى دراسي عالي يصل إلى 25%، أما العازبات فيصل إلى 36%، بينما الفئة الأكثر تضررا هن الطالبات والتلميذات بنسبة 36%.

أسباب متشعبة

رئيسة جمعية “المرأة المناضلة” بمدينة تطوان، ثريا البراج، اعتبرت أن “الانتقام الإباحي” يُعد جريمة غير إنسانية وتدمر حياة النساء، وقد تصل إلى حد القتل أو الانتحار، لافتة إلى أن أسبابها متعددة ومتشعبة.

وأشارت البراج في تصريح مع الجريدة، إلى أن الجاني في العادة يراهن على خوف الضحية من الفضيحة وتكتمها، بما يسمح له في الاستمرار في ابتزازها بكل أريحية.

وأضافت أن غياب الوعي القانوني لدى الجاني الذي يجهل التبعات القانونية والعقوبات الناتجة عن هذا الفعل، يجعله يستسهل جريمته دون إدراك بمصيره ولا مصير الضحية.

وبحسب المسؤولة الجمعوية، فإن غياب الانسجام الأسري، والخوف من ردة فعل الأسرة، من بين الأسباب التي تشجع الجناة على اقتراف مثل هذه الجرائم، وتجعل الضحية تركن إلى الصمت عوض التبليغ، وأحيانا الاستسلام والرضوخ لابتزاز الجاني.

كما شددت على أن نظرة المجتمع تعتبر مثل هذه المواضيع من الطابوهات المحرم الخوض فيها، خاصة حينما تكون الضحية سيدة، منبهة إلى أن المجتمع يفتقر إلى التعامل الصحيح مع هذه الثقافة الرقمية الهائلة.

ومن ضمن العوامل المؤدية إلى انتشار ظاهرة “الانتقام الإباحي”، تضيف الفاعلة الحقوقية، عدم الاستخدام الصحيح لوسائل التواصل الاجتماعي، في ظل عدم إمكانية فرض رقابة صارمة في المجال الرقمي.

عبء اقتصادي

لا يخفى على أحد ما يشكله العنف ضد النساء من تكلفة اقتصادية ثقيلة، سواء على المجتمع أو الدولة من خلال المنظومة الصحية، أو خدمات الدعم الاجتماعي المتاحة، أو المنظومة القانونية والميزانيات المخصصة لوضع السياسات، أو خطط العمل من أجل مكافحة العنف بشتى أنواعه، ومن ضمنه العنف الرقمي الذي يبقى “الانتقام الإباحي” أحد تجلياته.

وبحسب المندوبية السامية للتخطيط، فإن هذا العنف الممارس بحق النساء، تنتج عنه تبعات اقتصادية تكون كلفتها باهضة أحيانا، تصل إلى حد فقدان الإنتاج الاقتصادي، كما أن العبء على الضحايا وعائلاتهن تكمن في تحملهن النفقات المترتبة عن الولوج إلى مختلف خدمات الدعم والإنصاف.

وأشار المصدر ذاته إلى أن فقدان الدخل بسبب التوقف عن العمل أو الطلاق أو الانقطاع عن الدراسة أو الخسائر المالية الناجمة عن الابتزاز المادي، تعُد من بين أبرز الأعباء الاقتصادية على الضحايا فيما يخص “الإنتقام الإباحي”.

التبليغ هو الحل

يرى المحامي سليمان أسكري، أن من بين أكبر التحديات التي تواجه الضحايا في جرائم “الانتقام الإباحي”، هي التبليغ عنها، وذلك راجع لعدة اعتبارات.

وأوضح أن أبرز تلك الاعتبارات تكمن في الخوف من الفضيحة ونظرة المجتمع، ومن ردة فعل الأسرة، كما أن الجاني يستغل اللوم الذي يمكن أن تتعرض له الضحية، من أجل الاستمرار في جريمته.

وأشار المحامي إلى أن هذا النوع من الجرائم يندرج في إطار جرائم الابتزاز الإلكتروني الذي أطره المشرع المغربي من خلال الفصل 538 من القانون الجنائي المتعلق بالتهديد بإفشاء أمور شائنة.

وتنص الفقره الثالثة من الفصل المذكور على أن “…التهديد بإفشاء أو نسبة أمور شائنة (أي مخلة)، سواء كانت تهديدا شفويا أو كتابيا، يعاقب بالحبس من سنة إلى خمس سنوات وغرامة مالية من 200 درهم إلى 1000 درهم”.

وأضاف المحامي بهيئه تطوان في تصريح معه، أن التهديد يعتبر ركنا ماديا يعتمد على إجبار الضحية وكسر حرية إرادتها، خاصة كلما كان الأمر في نظر الضحية مشينا.

وفي هذا السياق، وبعدما أبلغت ملفها إلى القضاء، قالت الضحية نجاة عقب خروجها من باب المحكمة: “أخيرا يمكنني أن أنام بدون كوابيس”، مشيرة إلى أن شبح التهديد بقتلها بدأ يبتعد عنها بعد أن أصبح الملف بيد المصالح الأمنية والقضائية.

وأوضح المحامي في هذا الصدد، أن انفراج الوضع النفسي للفتاة نجاة بعد ولوجها المحكمة، يؤكد أن التبليغ يبقى هو الحل الأمثل لرفع حجاب “الطابوهات” عن هذا النوع من العنف الذي أصبح يستشري في مجتمعاتنا كالسرطان ويجهض أحلام الكثيرات، وفق تعبيره.

“بروتوكل جمعوي خاص”

رئيسة جمعية “المرأة المناضلة”، ثريا البراج، أبرزت أن جمعيتها تتعامل مع حالات العنف الرقمي الواردة عليها وفق بروتوكول خاص، فضلت عدم الخوض في تفاصيله، مشددة على أن من أبرز مميزات هذا البروتوكول هي السرية التامة، حفاظا على خصوصيات وأمان الضحايا.

وأشارت إلى أن جمعيتها تعمل على التوعية والتحسيس داخل المؤسسات التعليمية مع القاصرات والقاصرين حول كيفية التعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي، كإسهام منها في الجهود الرامية للحد من ظاهرة “الانتقام الإباحي”.

وبحسب المسؤولة الجمعوية، فإن التربية الجنسية أصبحت ضرورة ملحة في مجتمعنا الذي توغل في العالم الرقمي بشكل كبير، وذلك من أجل تكريس المفاهيم الحقيقية عن العلاقات بين الرجل والمرأة، ومواجهة كافة المعطيات المغلوطة التي يستغلها البعض من أجل اقتراف جرائهم بحق النساء.

وفي هذا الإطار، كشفت المتحدثة أن جمعية “المرأة المناضلة” التي تأسست سنة 2009، تعمل على القضايا الإنسانية للنساء، والترافع على حقوقهن من إجل إقرار المساواة بين الجنسين في جميع المجالات، ومحاربة كل أشكال العنف ضد النساء، ومن بينها العنف الإلكتروني.

مبادرات عملية

ورغم كون “الانتقام الإباحي” من المواضيع التي يصنفها المجتمع ضمن “الطابوهات”، إلا أن هناك جهودا ومبادرات جمعوية تحاول الإسهام في التصدي لهذه الظاهرة والتوعية والتحسيس بخطورتها والإجراءات المتبعة للتبليغ عنها.

وفي هذا الصدد، يرى ياسين كركيش، منسق مشروع “أصوات التغيير” بمدينة تطوان، أن تسليط الضوء على مثل هذه الظواهر، كفيل بإيجاد حلول لها ومساعدة الضحايا على تجاوز العواقب النفسية والاجتماعية التي قد تصل إلى مستويات عالية من الخطورة.

الناشط الجمعوي أوضح أن مشروعه قاد مبادرة لتقوية قدارات الفاعلين الجمعويين بتطوان، حول الصور النمطية وخطاب الكراهية تجاه قضايا النساء، مركزا على عدد من الظواهر المرتبطة بالنوع الاجتماعي، ضمنها ملف “الانتقام الإباحي”.

وأشار إلى أن المشروع الذي يشتغل ضمنه أشرف على تنظيم تدريب تطبيقي بمدينة شفشاون، أيام 17 و18 و19 نونبر الجاري، من أجل الخروج بإنتاجات رقمية عملية مستجيبة للنوع الاجتماعي، ضمنها مواضيع الانتقام الإباحي والتنمر الإلكتروني وخطاب الكراهية، إلى جانب الديمقراطية التشاركية، وذلك بإشراف مؤطرين متخصصين.

وبخصوص الانتقام الإباحي، أوضح كركيش أن الإنتاج الإعلامي الذي صدر عن هذا التدريب، استعرض تجربة حالة فتاة تعرضت للانتقام الإباحي، وكيف تم إقناعها ومواكبتها من أجل اللجوء إلى القضاء وتجاوز التبعات النفسية والاجتماعية، مشددا على أن مثل هذه المبادرات كفيلة برفع الوعي لمواجهة مثل هذه الظواهر التي يغذيها الاستغلال السلبي للثورة الرقمية الحالية، خاصة مع الذكاء الاصطناعي.

يُشار إلى أن مشروع “أصوات التغيير” تشرف عليه جمعية “المرأة المناضلة” بمدينة تطوان منذ حوالي عام ونصف، بشراكة مع فرع المغرب لمنظمة “أوكسفام” الدولية، بدعم وتمويل من “الشؤون العالمية لكندا”، وبتعاون مع المجلس الوطني لحقوق الإنسان.

روبورطاج من إعداد فريق مشروع “أصوات التغيير” بتطوان: فتيحة المزباغي، وفاء بوشمال، سمية البجاوي، يوسف الزلجامي، أسعد الموساوي، بإشراف الصحافي محمد عادل التاطو.

تعليقات الزوار