وجهة نظر

“الإسلاميون مستغلون للدين” بأي معنى ؟

أن يقال بأن الدين يشترك فيه جميع الناس و أنه يحظى بقداسة منقطعة النظير فذلك لا غضاضة فيه ، و تبعا له فإن تلك مصادرة لا فائدة من محاولة القول بخلافها إلا أن كلمة “دين” ليس المراد بها معنى واحد كما ليس معناها “الدين الحق” وحده و إنما تعني ما يدين به الناس و يعتقدونه سواء كان صراطا مستقيما أو معوجا ، حقا كان أو باطلا ،سماويا أو ارضيا…

و ما دام إذن الحديث عن الدين … فإن الأديان السماوية تجتمع في أصل واحد و هو “عبادة الله وحده” … سيما و أن تشريع الله لأمة خاتم النبيئين من الدين ما وصى به أولي العزم من الرسل “نوح-إبراهيم-موسى-عيسى بن مريم” … و بهذا يصير الأصل واحد و لو اختلفت المناهج … و لهذا وجب معاملة أهل الكتاب معاملة حسنة ، و الشاهد على ذلك قوله جل و علا:”قل يا أهل الكتاب تعالو إلى كلمة سواء بيننا و بينكم ألا نعبد إلا الله و لا نشرك به شيئا” …

فالدين أوسع نطاقا … و لو أردنا التخصيص أضفنا كلمة “إسلام” إلى “دين” و إن كانت كلمة إسلام أوسع من كلمة دين … و لعل كلمة “إسلام” دين و دنيا ،عقيدة و شريعة، عبادة و معاملة، دعوة و دولة ،خلق و قوة…

و في هذا نجد مدخلا للحديث عن علاقة الدين بالسياسة على سبيل انها تتوخى القيام على أمر الناس … بالأمر و النهي و القيام عليهم بما يصلحهم ، و بالتالي تصير السياسة فن إدارة المجتمعات الإنسانية في إطار شرعي … و لما كانت السياسة هي نهي و أمر “ففي القانون أمر مثلا بعدم الإمتناع عن تقديم المساعدة لإنسان في حالة حرجة … و نهي عن القتل…” فإن ذلك لا ينفصل عن ما جاد به الإسلام كدين عقدي و تشريعي … إلا أن ذلك ينأى عن كونه ثيوقراطية.

و بناء على هذا فلا ضير في جعل الإسلام مرجعية سياسية لحزب سياسي لا ديني ينهل منه توجيهات تهتم بسياسة الناس… إلا أن بروز ظاهرة الإسلام السياسي … مرحلة ما فتئت مقترنة بعبارة “استغلال الدين في السياسة” من قبل بعض معارضي الأحزاب الاسلامية المرجعية التي تتوخى في مشاريعها و برامجها الصبغة الاسلامية.

و بالآتي فحرمان القوى السياسية من استخدام ما تراه مرجعية لها في التشريع و الرؤى السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية أيا كانت طبيعتها شريطة أن لا يتعارض مع ارادة الشعب و قيمه لمن العبث الفكري … و عليه فإذا كان القول بأن كل من عمد لاعتماد مرجعية إسلامية في نهجه السياسي مستغلا للدين … فجدير أن يقال بأن الليبراليين يستغلون النوادي الاجتماعية التي يلتمون فيها في الدعاية السياسية أو أن اليساريين يستغلون النقابات التي ينشطون بها لأغراض انتخابوية … و التي من البديهي أنها للدفاع عن معاشات لا للمساومات السياسية…

سيقول قائل أن الدين مقدس و للجميع و أن السياسة نجس و كذب فقط … نقول لا غرابة في العبارة الأولى … و أما الثانية فإن كل بما في نواياه يصدح … فالسياسة الشرعية كما يطلق عليها الفقهاء تذهب لإقامة العدل بين الناس و الدين جاء ليساوي بينهم … حتى أكد “ابن خلدون” أن الدعوة الدينية تزيد الدولة في أصلها قوة على قوة العصبية التي كانت لها من عددها … و أن السبب في ذلك كون الاولى تذهب التحاسد و تفرد الوجهة للحق … و بذلك نجد موقف مؤسس علم الاجتماع واقعيا لا طوبوي ينصرف إلى “جمهورية أفلاطون” أو “مدينة الفارابي” … و بذلك صارت آصرة الدين أشد قوة في التنظيم العام حتى أكد “لوثر” البروتستانتي أن السلطة ضرورية لأن الناس فئتان أولى تنتمي لمملكة الله و أخرى لمملكة الارض فالأولى ليست بحاجة لسلطة ما دام الايمان و الروح القدس تملؤهم … لأن ذلك يترجم أفعالهم نحو الفضيلة ،بينما الثانية فلا بد لها من سلطة تقودهم نحو الخير … فالحاكم أداة للانتقام الإلهي و عليه فالكنيسة مؤسسة روحية لا سياسية … و في ذلك شاء “مونتسكيو” أن ينادي بالفصل بين الدين و السياسة … لكنه لم يغفل فوائد الدين بالنسبة للسياسة فهو يحفظ النظام العام و يعالج سلبيات و أخطاء السياسة كما أن الدين له القدرة الخارقة على توقيف الإستبداد.

بديهي إذن أن يكون حديث كل من “لوثر” و “مونتسكيو” عن ديانات مجتمعاتهم … فماذا عن الإسلام؟ … لا ريبة في كونه موقفا صريحا ،و حكما صريحا في أمور السياسة فهو لا عقيدة لاهوتية و لا شعائر تحصر بالمسجد فليس مجرد علاقة بين الخالق و المخلوق فقط و إنما هو موصول بالحياة العامة و توجيه المجتمع و الدولة ما دام منهاجا … و ما أصل التوحيد بهذا الكلام إلا انتفاضة لتحقيق الحرية و المساواة و الأخوة في البشرية … و تبعا له فالقولة الإنجيلية الأصل “دع ما لقيصر لقيصر و ما لله لله” هي قولة مناوئة للإسلام كمنهاج يكرس “القيصر و ما للقيصر لله”.

صحيح أن الإسترزاق بالرقص خير من الإسترزاق بالدين … و إن استغلاله في الوصول للكراسي لطامة عظمى لا ينكرها عاقل … إلا أن ذلك ليعد بينا في سلوكات من يعمد لذلك … فليس كل من استشهد قائلا :”قال الله” أو “قال الرسول” أو قال أبي بكر و عمر و علي و عثمان …إلخ بات مستغلا للدين بقدرة عظمة لسان … أو من نهى عن منكر و أمر بمعروف في مؤسسة المسجد أو في خطاباته في إطار النصيحة الواجبة على المسلم … “فالدين النصيحة-ثلاث مرار-” .

و جدير بالذكر أن النظرة المقاصدية في الإسلام ما كانت لتطبق على الناس حتى في “حدود الله” إلا بالسياسة حتى تسنى لعمر الخليفة الثاني تعطيل حد السرقة في “عام الرمادة” … و في نظير كل هذا نتساءل كيف يمكن لحزب يتخذ من الإسلام مرجعية له أن يستغل الدين في بلد بها إمارة المؤمنين التي ترأس المجلس العلمي؟ … هي إمارة المؤمنين و الأصل فيها سياسي أكثر مما هو ديني حتى لا يتسنى للبعض التغلغل في السلطة باسم فتاوى مسيسة و ما المبتغى بعدها إلا لحفظ الإستقرار و قطع الطريق عن المتسللين للحقل الديني و إصدار فتاوى التكفير و القتل عنوة و بعث جاهلية محاكم التفتيش الدينية … و من رأينا المتواضع أن قولة “استغلال الدين” ما هي في فاه بعض القوى السياسية إلا لعجزهم عن المقارعة السياسية لأن دعواهم في تلك العبارة غير صحيح … و دعواهم هو أن الحزب الإسلامي سيدعي الحكم بالحق الالهي و يتكلم باسم الخالق … فردا على ذلك نأبى إلا أن نقول بأن الحزب الاسلامي لا يرخص له كأي حزب إلا بعد تقديمه لبرنامجه محددا فيه رؤيته و أهدافه و بواعثه و مناهجه و رسائله و وسائله… في الرقي بالمجتمع من كافة المناحي… و به فإن تبث أن برنامجه راديكالي و يحمل دعوى للحكم بالحق الإلهي رفض طلبه … بينما إن كان العكس يبقى شأنه شأن باقي الأحزاب العاملة في ظل الدستور “و إن كان ممنوحا فالدستور الممنوح تحت ضغط الشارع قد يجانب الصواب لأنه جاء في خضم النار الشعبية …و الإنتقال للمراحل المتقدمة لا يأتي بحجم كبير … وهذا رأي يخصنا و لا نلزم به أحدا”… فهو حزب مستمد لمرجعيته من الشريعة الاسلامية السمحة مقرونة بالاجتهاد و التجديد و المرتبط بفقه المقاصد و الموازنات و الأولويات … فقد يكون هذا الحزب وليد حركة دعوية كما بالمغرب “حزب العدالة و التنمية وليد الحركة الإسلامية” إلا أنها تنفصل عنه بكون الأول سياسي و الثانية دعوية … فلا يمنع أن يرث الحزب الأمور التنظيمية المؤسسة على: “المرجعية للكتاب و السنة فقط ثم اتخاذ القرار بالشورى الملزمة و تحمل المسؤولية بالانتخاب ..” كما هو الشأن بالنسبة “للتداول” المسمى قبله “بالجرح و التعديل” كما أن التجربة المغربية ليست كالمشرقية في هذا الشأن … فهي تجربة متمغربة لا إخوانية مشرقية … أضف إلى كل هذا أن دعوى المناوئين لتأسيس الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية أنها ستستغل المساجد … هو قول يستعمل فيه التعويم و التلفيق بعلم … فهم على علم بأن المسجد ليس للإسلاميين وحدهم بل لعامة المسلمين علمانيهم و اشتراكيهم و ليبيراليهم … فيتجنب المسجد الدعاية للأحزاب و الأشخاص … فدور المسجد لا الثناء على الحكومات و سياساتها … و به فلا مضار في أن يكون المسجد منبر حق إبان مخالفة الحكومات لقيم الشعوب الدينية ما دام أفضل الجهاد هو كلمة حق عند سلطان جائر… فالمسجد مقام للتأكيد على شرع الله لا لإعطاء الشرعية للحكومات … و دور الحزب عموما تأطير الناس و المشاركة في ترسيخ الديمقراطية و الوقوف في وجه المتحكمين في إرادة النخب … لا تكفير الناس و هرطقتهم و استباحة دمائهم … و جلي بعينه أن الحاكم في الدولة ليس بخير الناس و أتقاهم … و إنما هو واحد من عوامهم … فتصير الطاعة واجبة له ما أطاع الله في الناس و ما لم يأمر بخلاف دينه و مقاصده … حتى أكد الإمام أحمد بن حنبل –صاحب المذهب المتبع عند الوهابيين على حد تعبير أحدهم- “أنه لو كان هناك أميرين أحدهما ضعيف و ورعه قوي و الآخر قوي و فاجر … و طلب منه القتال في صف أحدهم نصرة لعامة المسلمين فإنه ليفضل القتال في صف القوي لأن فجوره على نفسه و الآخر ورعه لنفسه …” و هنا يظهر أن الإسلام لا دولة دينية … بل مدنية حتى أوصى النبي و الخلفاء من بعده بأهل الذمة ليكون الإسلام بذلك مؤكدا على التعددية في العقائد داخل الدولة …

و ختاما ،يظن الكثيرون أن الإسلام مثالي لدرجة أنه لا يمت للواقع المأساوي بصلة … و هذا خيال … فالإسلام مثاليته تبرز في علاجه للواقع كما هو سواء كان شرا أو خيرا “فالحرب خدعة” و “الضرورات تبيح المحظورات” و “المشقة تجلب التيسير” و “لا ضرر و لا ضرار” و “لا عسر في الشرع” كما إن حضر الماء رفع التيمم ” و لا حرج في الدين” و كذا ارتكاب أخف الضررين و أهون الخطأين و درء الحدود بالشبهات … و في ذلك نذكر شروط صلح الحديبية التي قبلها النبي و إن كانت قاسية … ما دل على أن المشقة تجلب التيسير و أن الحبل إذا اشتد انقطع

مجرد رأي
ــــــــــ
طالب جامعي