حرية الرأي والتعبير

تستدعي الاحداث الأخيرة، التوقف عند حرية الرأي والتعبير في بلادنا والتموجات الكبرى التي مرت منه، منذ تشكيل الدولة الوطنية غداة الاستقلال، طبعا جزء كبير من نضالات أحزاب الحركة الوطنية والتقدمية كان في سبيل الحرية في شتى تمظهراتها، دفع اليسار المغربي ثمنا باهظا من أجل ذلك، هذه حقيقة تاريخية علينا الإقرار بها، كما دفعت القوى الحقوقية والثقافية التي ارتبطت به الثمن كذلك.
معلوم أن الصحافة الحزبية كانت رأس حربة الدفاع عن حرية الرأي و التعبير، ساعتها كانت المحاكمة العادلة وقرينة البراءة و الحق في الدفاع ، و التوسل بالمعايير الدولية لحقوق الانسان أضغات أحلام، و لكن القوى الديمقراطية و الحركة الحقوقية وجمعية هيأت المحامين بالمغرب، شكلت عمليا جبهة الدفاع عن حرية التعبير و مواجهة التسلط ،هذا على الأقل ما تخبرنا به تقارير هيئة الانصاف و المصالحة وتقرير الخمسينية ، و التقارير المذهبية للأحزاب الوطنية و الجمعيات الحقوقية و اتحاد كتاب المغرب و باقي ألوية المدافعين عن حقوق الانسان زمن سنوات الجمر و الرصاص .
طبعا مع مطلع تسعينات القرن الماضي بدأت نسائم الحرية تهب محمولة على مبدأ الاشتراطية في العلاقات الدولية، وعلى وقع ” الليبرالية ” التي مدت أرجلها بانتشاء بعد سقوط جدار برلين وترنح الأنظمة الاشتراكية، ساعتها كان الملك الراحل الحسن الثاني سباقا الى إدراك ان الزمن دار دورة كبرى، وعلى الحاكمين الدوران معه، فدشن سياسة الانفراج الحقوقي بالموازاة مع مسار البحث عن اشراك المعارضة في التدبير الحكومي.
سيحدث التحول الكبير بعد تشكيل حكومة التناوب و انتقال الحكم سنة بعدها، سيحصل الانفجار الكبير في الحرية ، سيحصل التحول الكبير، كان ظهور الصحافة الخاصة ساعتها احد ابرز عناوين هذا التحول الكبير، مورست حرية التعبير بشكل غير مسبوق، تم الحديث في كل شيء وعن كل شيء، سقطت الطابوهات، وحمل الصحفيون خصوصا القادمون من اليسار ومن مدرجات ظهر المهراز اقلامهم وشرعوا في الكتابة و التحليل واعداد الملفاة ، كانت لحظة بوح كبرى، هذه المرحلة تخللتها حوادث سير، ولكنها بقيت معزولة و قليلة، وبقي المنحنى العام هو حرية الرأي و التعبير.
منح قدوم الهاتف الذكي، والاعلام الاجتماعي ، و الاعلام الرقمي لحرية التعبير فضاءات أرحب، غير أنها أيضا وضعا أسسا صلبة لما بات يعرف بالتفاهة و التسطيح و المس بالحياة الخاصة، بل وفي العديد من الحالات منحت مساحات لعاهات مجتمعية اذا ما استعرنا تعبير الفنان المغربي نعمان لحلو، منذ ذلك التحول ظل النقاش حول حرية التعبير يتأرجح بين أطروحتين، الأولى لا ترى إلا السواد في بلادنا و تنكر كل المكتسبات المحققة، و تحمل معاول الهدم في هذا الصرح الحقوقي الكبير الذي حققته بلادنا ، و الثانية تثمن ما تحقق في مجال الحقوق و الحريات في بلادنا، بل وترى ان هناك تعسفا من لدن البعض في ممارستها.
جاء الدستور ببابه الثاني الذي عد صكا للحقوق و الحريات استمر السجال و الجدل ، هل نتقدم ام نتأخر؟ وشكل النقاش حول قانون الصحافة و النشر خلال الولاية التشريعية الأولى التي اعقبت الدستور لحظة مهمة لنقاش مجتمعي كبير حول حرية التعبير اين تبدأ و أين تنتهي .
في كل بلدان العالم، يضع القانون قواعد وشروط واضحة لممارسة الحقوق و الحريات، و الحال أن مساحات حرية الرأي و التعبير شاسعة في بلادنا، رغم كل ما يقال، ورغم التحامل المنهجي لبعض الأطراف التي لا تريد ان تنزع النظارات السوداء، لقد نصبوا انفسهم حماة للحرية في بلادنا، إنهم يصرون على النظر الى الجزء الفارغ من الكأس ، يتعلق الامر على وجه التحديد بتحالفات هجينة بين بعض مكونات أقصى اليمين و أقصى اليسار، لا يجمعهم الا التبخيس اليومي لكل المنجزات الحقوقية التي حققتها بلادنا.
عندما تمارس حرية التعبير في قضايا وطنية كبرى دون ادنى شعور بالمسؤولية فالخاسر الأكبر هو الحرية نفسها، وعندما تمارس بتهور ورعونة في قضايا تهم الوطن ووحدته و أمنه و استقراره، فمؤكد ان الأمر يقع تحت طائلة القانون الذي يجب ان يطبق على الجميع باحترام كامل لقرينة البراءة و الحق في المحاكمة العادلة.
الذين أزعجهم الفتح الديبلوماسي المغربي الكبير بعد الاعتراف الفرنسي بالسيادة المغربية على الصحراء، إنما يضعون أنفسهم في تقاطع موضوعي مع خصوم الوحدة الترابية للمغرب، وإلا ما معنى أن يتم نشر أو تقاسم ترهات تمس بالدولة وهيئاتها في غمرة زيارة الرئيس الفرنسي دون ادنى شعور بالمسؤولية.
تقر المرجعية المعيارية الحقوقية الدولية بإمكانية وضع قيود على حرية التعبير اذا كانت تمس بالأمن القومي، أو بالمصالح العليا للبلد، ومع ان الحل دائما ليس هو المتابعة ، الا ان القانون يعلو و لا يعلى عليه، وعلى خلاف الصورة النمطية التي تحاول بعض الأطراف التي مازالت تلتحف السواد، إلصاقها بأجهزة انفاذ القانون في بلادنا، الا اننا استمعنا مؤخرا الى تصريح احد ” النشطاء” وهو يقر بان ما لاحظه خلال يومين من الحراسة النظرية هو ان ” الأمور تغيرت بشكل كبير جدا”، ولعله في هذه قد أنصف بلاده، نعم هناك أمور تغيرت بشكل كبير في بلادنا، و هو تغير ملموس ومعاش، لا يمكن رؤيته الا بعد إزالة النظارة السوداء التي مازال يضعها البعض.
إن مغرب العدالة الانتقالية، ومغرب دستور 2011، ومغرب الانفتاح والتعاون الدائم مع الأليات الأممية لحقوق الانسان، لا يمكن المزايدة علية في مجال حرية التعبير والرأي، والجميع يلاحظ الاسهال الكبير الموجود في هذا المجال، هناك أطراف لا تأل جهدا في البحث عن “سجناء الحرية”، والمغرب لن يمنحهم هذه البطولات الوهمية، لن يضعهم فوق القانون ولا تحته بل في مواجهته.
إن أكبر أعداء الحقوق هم أولائك الذين يتعسفون في ممارستها.
اترك تعليقاً