منتدى العمق

أخطاء الرؤية في لوحة التمزغ

١- في مجال تداول اللغات لا يبرر السبق الزمني و لا القدم التاريخي ، ضرورة سيادة لغة على لغة او ضرورة القيام بحفريات آلية (استرجاع مكونات تركيبية وفونيتيكية وفونولوجية وغرافيكية) لاسترجاع لغات قديمة ماتت نسبيا واندثرت (بفعل عوامل تاريخية) ووضعها كلغة قوية جاهزة فقط لانها سابقة في التاريخ. بعض اللغات القديمة كان لها بالفعل اثر حضاري انساني في زمان استعمالاتها الوظائفية الحيوية (التجارة والملاحة والتواصل الديبلوماسي بين الامارات ثم الدين والابداع والفكر والبحث العلمي)، لكن الأثر الحضاري للغات يشبه الى حد ما اثر المناخ على النبات. اذ بمجرد انحسار تلك الوظائف (التداولية) تنكمش اللغات وتذوب ضمن لغات مستجدة اكثر تداولية pragmatique. هذا ما وقع للفلامانية مع الجرمانية و للغولية القديمة مع الفرنساوية و للهلفيتيكية مع الفرنسية الوسيطة وللأمازيغية مع العربية وللعربية مع الهسبانية في جنوب اسبانيا. بدون الحديث عن الذوبان الكبير الذي حدث للاتينية مع الايطالية و التي تقاتل اليوم هي ايضا ضد مصير الذوبان وفق دورة الحياة اللسنية في اوروبا.. طبعا كل اللغات التي ذابت langues fondues ظلت مواضيع ومتون ابحاث اركيولوجية واستثمار فلكلوري لتغذية الذاكرة الجماعية (ليس إلا) لكن لا يمكن ان نمنحها ادوارا تداولية ومؤسساتية تفوق طاقتها فذلك سيدفع بمسحها نهائيا بسبب هذا التهجين اللغوي clonage
٢- في مجال اللغات هناك عنصر مهم تخفيه الايديولوجيات. هذا العنصر هو قساوة فكرة التطور الخطي التراكمي “شبه الحتمي” للغات. وهو عنصر قاس على قلوب دعاة الدورة التاريخية اللولبية التي بها يتم تبرير الذهاب والاياب لاسترجاع واحياء لغات قديمة ذابت كليا او جزئيا في لغات مستجدة. الامازيغية تطورت وتغيرت ملامحها و “تحرفت” حسب المجالات الجغرافية واندثرت كليا هنا وذابت جزئيا هناك. وازدهرت حتما حيث كانت لغة التداول النقدي والتجاري ولغة “القوي اقتصاديا” الذي فرض ديانته وفلسفته وابداعاته. وماتت تلقائيا لما ضعفت المكانة الجيو-اقتصادية والسياسية لمستعمليها. هذا مصير محتوم لكل اللغات كأنها بوطانيك botanique او قاعدة انتقاء règle de sélectivité تحتكم لعامل قوة الجدوى وليس لقوة الوجود فقط. هذا طبعا ليس مصيرا حصريا عاشته الامازيغيات (صيغة جمع) بل هو مصير رادخ لكل اللغات. اليوم، التنافسية قوية وشروط البقاء صعبة. اما لوازم الانتشار والاجتياح فهي مستعصية على ثلثي لغات العالم اليوم. مؤشرات ضرورية تبقى كفيلة لاستمرار لغة ما في الحياة : براءات الاختراع التكنولوجي، الابحاث العلمية الحقة، الحصص من الاسواق (بكل انواعها), التموقع الدولي العسكري وجيو-سياسي، والإعلام والقوة الناعمة… يخفى على كثيرين أن اللغة العربية كادت تذوب كليا في جسم لغات مستعمريها ( او تنشطر الى لهجات محلية) لولا الطفرة النفطية التي حولتها إلى لغة تداول تجاري ثم استثمار تلك الطفرة في تحسين موقع العربية اعلاميا (قنوات باستثمارات ضخمة) ودخولها اسواق استثمارية جديدة (القطاع البنكي والمصرفي والعقار والقطاعات الترفيهية والرياضية). مكانة اللغة العربية اليوم تغذيها كتل الاستثمارات التي تضعها دول عربية في سوق دولي عمقه مادي صرف وسطحه لسني لغوي ثقافي. هذه الطفرة ابعدت كل احتمالات احياء لغات قديمة وابعدت تماما كل فرص فرضها مؤسساتيا. ما عدا هذا المعطى، فكل ذلك هو تواطؤ ضد دورة التاريخ. الرهان على ادخال الامازيغية “قسرا” وسط هذا السوق اللغوي الدولي العنيف هو قتل مزدوج لقيمتها الثراثية.
٣- إذا امعنا النظر في اطروحات دعاة احياء الامازيغية نجد دوافع مسنودة بدعامات. لكن كل ذلك يبقى مجهود سياسي محظ وليس لغوي بحت. الدافع الاول هو هوياتي وجداني مسنود بمعطى تاريخي يوحي بوقوع “ابادة حضارية” احلها التوسع العربي الديني والعسكري في شمال افريقيا فوقع “تذويب” قسري للعالم الامازيغي برمته ضمن “الصرح العروبي”. هذا تعسف على فهم دورة التاريخ وتجسيد سينمائي تبسيطي واستئصالي. الاسلام دخل الى شمال أفريقية بمباركة ودعم وترويج من امارات امازيغية (عهد الادارسة نموذجا)…وقبل ذلك بقرون ولأن مملكة سبأ (العربية) كانت منارة تجارية قوية فقد احتكت حضارات (الفينيقيون والرومان والامازيغ…) بلغتها بل ونمط كتابتها. ولا عجب في ان نرى اثر الخط السبئي على الخط الفينيقي الذي حاكته امارات الامازيغ الافريقية. طبعا هذا لن يدفع انسانا عاقلا ان يفاضل بمشروعية لغة على اخرى ولا أن يدعو الى اعادة احياء السبئية او الفينيقية او البرغواطية بدعوى سبقها التاريخي. الدافع الثاني سياسي مسنود بأحداث سياسية استعمارية “محتالة”. حيث ايقظ الظهير البربري الفرنسي (بالمغرب) فرصة سياسية في التموقع المؤسساتي لنخب معينة بالركوب على معطى لغوي. هذا الظهير كان له وقع سياسي كارثي على جبهتين،فكانت الضحية هي الامازيغية. ظهير زاد من منسوب الحرص السياسي العروبي وزاد من منسوب قمع لغة لا دخل لها اصلا لا في استعمار فرنسي ولا في تشكيل نخب سياسية. ومن جهة ثانية ايقظ عند رعاة ودعاة احياء الامازيغية “الإفراط الهوياتي” كمدخل لولوج مؤسسات السلطة، مما جعلهم يستثمرون صراعا ايديولوجيا مع العربية ليس كمقوم لغوي وانما كآلية تهميش وقمع. مياه كثيرة جرت تحت الجسر فتحول النقاش حول الامازيغية بالمغرب الى نقاش يهم “شعبا اصليا” منبوذا مقابل “شعب دخيل” مستحوذ.
٤- إذا امعنا النظر في وثيرة تعامل الدولة المغربية مع الامازيغية (وفق اهتمام ملكي حصري) نرى أولا إنها وثيرة “ثقيلة” شكلا وحذرة مضمونا. حيث لا يخرج قرار رسمي يهم الامازيغية الا بعد مرور عشر سنوات على استنفاذ زمن آخر: خطاب اجدير سنة ٢٠٠١ تلاه احداث المعهد الملكي للثقافة الامازيغية واضفاء الطابع الرسمي عليها سنة ٢٠١١ ثم اعتماد التقويم الامازيغي لتخليد راس السنة الامازيغية (التفكير فيه والتداول في شأنه منذ ٢٠٢١). هذه الاشارات الرسمية لا تعدو ، في نظر دعاة الامازيغية غير المؤسساتيين (المشتغلين خارج المؤسسات الرسمية) ان تكون شكلية وغير مهيكلة وذلك بالنظر للتأخر الكبير الذي يطبع التنزيل المؤسساتي الفعلي لهذه اللغة رغم طابعها الدستوري (فقط ١٥% من تلاميذ التعليم الاولي من يستفيد بشكل جزئي من حصص تعليم الامازيغية منذ ٢٠٠٣)… وهناك من يعيب على الدولة “استخفافها” في التعامل مع الامازيغية من خلال حصرها في شارات بعض المؤسسات واستعمالها فقط لا غير كلغة ثانية في التشوير الطرقي… لكن ما لا يعلمه او لا يحب ان يعلمه دعاة التنزيل الكامل والفوري للامازيغية ان الدولة لا تستخف وانما تقايس منسوب استحضار الامازيغية ضمن لغات المؤسسات وهي ايضا غير مستعدة لتسخير آليات مواكبة mesures d’accompagnement واستثمارها على لغة لا يشكل غيابها لحد الساعة اية عرقلة مؤسساتية. وتتهرب فعليا من إطلاق دراسات الجدوى حول استعمال لغة سبق للدستور ان الزم (ورط) الجميع باعتمادها لغة رسمية ثانية للدولة (النتائج السلبية لدراسات الجدوى ستكون محرجة دستوريا وسياسيا). ثم ما لا تحب النخب السياسية الاشارة إليه هو ان دستور ٢٠١١ جاء في سياق سياسي خاص (انتفاضات الربيع العربي) وكان لزاما ان يوسع الدستور الجديد هوامش التوافقات ومساحات التطمينات السياسية في شتى المجالات (الجهوية الموسعة، المساواة، الامازيغية….) لكن السرعة التوافقية التي سار بها الدستور تحولت اليوم لعائق بدت ملامحه تتجلى في وجود “تفاوت دستوري” décalage constitutionnel

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *