منوعات

بلكبير يكتب عن ازدواجية السلطة وانتخابات 7 أكتوبر من عبد الله إبراهيم إلى بن كيران

– إن الخيار الثالث (أو الأول بالأحرى) يقتضي إعادة إنتاج الوفاق الوطني

– أوفقير كان دولة قائمة الذات سرا وعلانية، وكذلك الأمر بالنسبة للدليمي

– الأمل مرة أخرى في مبادرة شجاعة وحاسمة من قبل المؤسسة الملكية كما سبق وبادرت (75-96-2011).

ـــــــــ

في سابقة هي الأولى من مستواها، وإن لم تكن من نوعها، يصرح السيد بنكيران، وذلك باعتباره رئيسا للحكومة: أن في المغرب دولتان الأولى، يترأسها الملك والثانية “لا ندري من أين تأتي قراراتها وتعييناتها” (؟!) هذه المقالة تحاول تحليل الظاهرة والخوض في بعض مظاهرها ودلالاتها وعواقبها… 

1- الازدواجيـــــــــة:

لقد سبق لرئيس حكومة سابق، هو المرحوم ع. الله إبراهيم، أن أكد على معنى قريب من هذا، وذلك بقوله غير ما مرة، إن “في المغرب مجتمعان” على صعيد واحد، كان يعني بملاحظته الجوانب الاقتصادية –الثقافية… بالطبع. فهل هي نفسها التي أنتجت عواقب سياسية متمثلة في “دولتين” اليوم (؟!)

وأيضا سبق لمحمد اليازغي أن تحدث عن “الحزب السري” الحاكم من خلال الإدارة، خاصة منها وزارة الداخلية (الشؤون العامة أو السياسية بالأخص) ولكن أيضا أجهزة أخرى لا تقل عنها تأثيرا ونفوذا واستثمارا للشرعية، لتحقيق أهداف لا شرعية، وفي الحالتين (أو الحالات) فليس بين تلك الأجهزة تكامل (عدا في شروط القمع) بل تنافس وحتى صراع أحيانا، تؤدي فواتيره إدارة الدولة والمجتمع ومستقبل الوطن جميعا.

وقبيل تهميشه، بادر أحرضان في تجمع خاص بمدينة الدارالبيضاء (قبل عقدين)، إلى دعوة فرنسا لتحمل “مسؤوليتها” في الدفاع عن “الأمازيغ” في المغرب، وذلك حسب خطابه من “مقتضيات أوفاق إكس ليبان” ما يعني أن هذا عقد الاستقلال اقتصر على تجديد عقد الحماية الاستعماري، ولم يكن لذلك “استقلالا” كاملا.

ولطالما اشتكى، بل وانقلب المرحوم الحسن 2 على تلك الأجهزة، التي حولت الحراسة عليه إلى محاصرته، ما اضطره إلى الانقلاب عليها وقطع رؤوسها، وأشهر ذلك، التدبير “المسرحي” لإقصاء “الجميل” وذلك عن طريق إشهار الملف الفضائحي لضابط الأمن “ثابت” (1992) وبمساهمة مجزية لجريدة “الاتحاد الاشتراكي” والتي أمست، ولأول وآخر مرة، تسحب من أعدادها طبعتين في اليوم، تحريضا واستجابة للطلب المجتمعي لنهش ما تيسر من “مجرمي” الإدارة ممن قررت التفريق بينهم أو التخلص من بعضهم سلما بالإقالة، أو الزج بهم في “المحاكمة” إياها عند المكابرة.

[لعله من هذا القبيل، ما يحكي عن “خَرَق” إدريس البصري عندما حذر الحسن الثاني من زيارة الجنوب الصحراوي قائلا “إنني لا أضمن سلامتكم” فرد عليه المرحوم بعد سبه “إن الله هو من يضمن سلامتي” وطبعا فلقد كان “لخليفة الله” عيونا وآذانا أخرى لم يكن للبصري علم بها؟! ]

أما التفكير في الانقلاب أو محاولته، وحالاتها لا تقل عن 16 مرة، فإن أهم حكاياتها معروف. خاصة نموذج أوفقير، والذي كان فعلا دولة قائمة الذات، سرا وعلانية، وكذلك الأمر بدرجة أقل بالنسبة لحالة الدليمي.

ولا يجوز في هذا الصدد نسيان الخطبة الشهيرة للمرحوم الخطيب في ملعب (م. ع. الله) حين حذر من “خطر انقلاب على الملكية” (2003).

… “ازدواجية السلطة” في إدارات الدول الرأسمالية، تكاد تكون قانونا سائدا فيها جميعا، ومن خلالها غالبا تقع الانزلاقات المتواترة نحو النمط الصريح للديكتاتوريات والفاشيات في تاريخها جميعا، ولقد عبر عن ذلك واشتكى الكثيرون من قادتها، فضلا عن المفكرين التقدميين، وإلا فهل يجوز أن ننسى تحذيرات “روزفلت” الصريحة من أخطار “المجمع الصناعي-العسكري” على الإدارة الأمريكية (؟!) ثم لاحقا كندي، “شهيد” الدفاع عن “الليبرالية” المفترى عليها اليوم، بل ومن صعَّد هتلر ومن نصَّب “بيتان” وأقصى “دوكول” ثم لاحقا صنع له “ربيعا” فرنسيا (1968) يرغمه على الهزيمة دون مجد “الشهادة”.

بالتبعية، فإن جميع إدارات الدول الضعيفة أو المستضعفة، تعاني من نفس الازدواجية القاتلة، وذلك غالبا بفعل تدخلات وتناقضات وحتى صراعات الإمبرياليات، وإلا فما معنى انقلاب “الساداتية” على الناصرية وقد استظلت بظلها وتمكنت في حضنها، بل وغورياتشوف نفسه مقارنة إلى جميع من سبقوه، وخاصة من كان عليه الأمل معقودا للإنقاذ (=شيريننكو) والذي قضى فجأة وفي شروط غامضة(؟!)

2-بلاغة سياسية جديدة (من هو المتكلم؟)

البلاغة في الخطاب، بما فيه السياسي، هي عموما أن يضطر منتج الخطاب “البليغ” إلى التوسل بوسائط غير مباشرة للإبلاغ عن “المباشر” ما ينتج “الازدواجية” في المعنى عن طريق المجاز أو الاستعارة أو الكناية أو التورية…إلخ

ما يثير أكثر في تصريح السيد بنكيران، ليس معناه المباشر فقط، بل أساسا شكله، ذلك لأن المعني رجل منضبط جدا، ومسؤول دائما في تصريحاته، رغم بعدها المسرحي أحيانا، بل وبواسطته أيضا (هكذا هو تاريخ المسرح أصلا، وخاصة منه نمط التهريج)، فهل يكون بنكيران هذه المرة أخطأ قاعدته أم يكون طابقها (؟!)

أرجح أنه طابقها، وأن التصريح إياه لم يكن فلتة لسان، ولا إحراجا لرئيسه وأميره، بل هو بالأحرى لسانا له وإفصاحا من قبله ونيابة عنه، وهو ما يعني سياسيا وفي نهاية الولاية الحكومية، أن كل شكاوى رئيس الحكومة السابقة من التماسيح والغيلان… (=جيوب المقاومة باصطلاح اليوسفي سابقا) هي من دولة داخل الدولة أو موازية لها، وأنه ليس وحده ضحية لها بل الملك أيضا، وربما الملكية نفسها. والفرق، أن دور هذه الأخيرة في التوازن، يمنعها من التصريح، وإلا تعرضت لما سبق أن تعرضت له من تهديدات، وذلك على عكس رئيس الحكومة الذي يمكنه ذلك، بل ويجب عليه، وهو الأمر الذي لم يقم به سابقه (اليوسفي) في معركة الانتقال الديمقراطي” والتي تعتبر مركزية السلطة شرطا من شروط انتصاره (=الديمقراطية المركزية) التي تعني في شروطنا، تعديدا للسلط (الفيدرالية) وليس وحسب ازدواجية لها في المركز، وهذه اليوم إرادة الاستعمار الجديد بتعدد مراكزه الإمبريالية.

ولأجل التوضيح أكثر، يمكن مقارنة هذا النمط الجديد من بلاغة الخطاب السياسي، بشبيه له، هو الخطاب الملكي الأخير في الخليج. لقد كان بالأحرى لسان حال المستمعين، بنفس درجة، وربما أكثر، منه لسان مقال الملك. لقد كان المستمعون في “المجلس” هم المتكلمون في الحقيقة، غير أن في أفواههم ماء، أما المخاطَب الحقيقي، فهو يوجد في قارة أخرى (أمريكا) ويشتكى من سياساته الطرفان معا، الخطيب والمستمعين في المجلس إياه.

3-المغرب بين إمبرياليتين:

عندما دشنت الرأسمالية في الغرب، فجر عصرها الحديث، حكمت على شرق العالم وجنوبه بدخول عصر الاستعمار، فلا يمكن لذلك فهم تاريخهما وحاضرهما (الشرق والجنوب) بدون اعتبار تلك الرابطة إياها.

لنتذكر، أن بواكير نمط الاستعمار بدأت في المغرب بالذات (ق16) وذلك باحتلال سبتة ومليلية… وأغلبية المدن الساحلية، ثم كان احتلال الجزائر من قبل فرنسا (1830) وهزيمة المغرب في الحرب معها بسبب ذلك (1844) ثم مع إسبانيا (1860)، ثم الاحتلال المتدرج لأجزاء متفرقة من المغرب سلما وعنفا (1907)، ثم نشر الحمايات على الأفراد والجماعات، ونشر وتشجيع فتن وقلاقل الزوايا والقبائل والحرف والمغامرين… ثم اختراق إدارة الدولة وتفجير الصراع في مركزها (ع. العزيز وع. الحفيظ) ثم الاحتلال الرسمي (مارس 1912) وهو ذاته تاريخ تأسيس ازدواجية السلطة في المغرب سواء ترابيا (فرنسا-إسبانيا) أو مركزيا: المخزن (=الأصالة) وإدارة الإقامة العامة الفرنسية (=المعاصرة) والتي هي نفسها لاحقا وزارة الداخلية (الشؤون العامة بالذات) والتي كان الانقلابان العسكريان (70 و1971) ضدا عليها، أكثر منهما، ضدا على الملك نفسه، والذي اعتبر منحازا لها أكثر منه للمؤسسة العسكرية، أي أنه أرغم على إعادة الاعتبار لوظيفته الأصلية والأهم (=التوازن). وكذلك كان فعلا، وذلك بشرط أن يرفع الجيش يده عن الشأن السياسي، في مقابل إطلاقها في ميدان المال (البنوك) واقتصاديات الريع: العقار، الفلاحة، والصيد البحري…

لقد كان حدث الانقلاب وعواقبه، يخدمان هدفا أكبر، هو الصراع الأمريكي-الفرنسي على المنطقة، لقد نجح الانقلاب أمريكيا، على هذا الصعيد، وذلك باستغلالهم المطلق للحظة مركزة السلطة على يد أفقير، والذي نفذ لمصلحته، وبالتبعية لمصلحتهم، حكم الإعدام في حق رموز الوجود الفرنسي في المغرب عسكريا (10 ضباط عدا واحد أعدم لوطنيته) وبذلك خفت قبضة حزب فرنسا نسبيا، وتمهدت الطريق نسبيا أيضا لنفوذ أمريكي أكبر وأكثر…

التخطيط الأمريكي للتسرب التدريجي لمصالحه ولنفوذه في المغرب، ليس طارئا، لقد تأسس مباشرة بعد نجاح “ربيع” إسبانيا الأمريكي مع الجنرال فرانكو (1939)، وهو ما يفسر لاحقا مناكفة إسبانيا لفرنسا في المغرب (رفض تنحية محمد5 مثلا) وتشجيعها للمقاومة المغربية، تم لجيش التحرير المغاربي في منطقة حمايتها (شمال وجنوب المغرب).

لقد راهن الأمريكيون منذ ما بعد الحرب العظمى II وحتى اليوم، على ما يسمونه ب”المجتمع المدني” سبيلا للانقلاب على إدارات دول الاستعمار التقليدي، ومغاربيا يعتبر اغتيال فرحات حشاد من قبل المخابرات الفرنسية (1952) مؤشرا على مدى ضلوع أمريكا في مناهضة أوربا عن طريق مساندة الحركة الوطنية (النقابية) ومباشرة إثر ذلك، تحرك الشارع المغربي وبرز فيه خليفة لحشاد (المحجوب بن الصديق) ومعه وارتباطا به الزعيم ع. الله إبراهيم. ومن تم تأسيس (أ.م.ش) أولا، ثم الرهان الفاشل (أمريكيا) على تأسيس “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية”، وذلك خاصة بسبب الموقف الحاسم للمهدي بن بركة ضدا على ذلك المنحى، وهو في العمق سر الصراع العمودي داخل “الاتحاد” منذ تأسيسه، بلوغا إلى الانتفاضة الانشقاقية الأخيرة التي اشتهرت باسم رمزها القيادي المرحوم أحمد الزايدي وبعض من معه “التيار القطَري” فضلا عن تحالفاته الإسلاموية واليسروية الأمريكية… وذلك في سبيل إعادة إنتاج نسخة جديدة منقحة من “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية” مضمونا ووظيفة وحتى تسمية، كما كانوا يسعون، قبل تدخل “الدولة” لمنع ذلك، ثم مقتل الزايدي الذي لا يكاد يختلف عن اغتيال شبيهه “حشاد” بالنسبة للمصالح الفرنسية في المنطقة (؟!) [نفس طريق بوزنيقة، شهدت عدة محاولات سابقة (المهدي والمختار السوسي، وعلال الفاسي) ولاحقة (باها)؟!

لم تكن هزيمة الاستعمار الأوربي نتيجة مقاومته وطنيا، ودعمها أمريكيا (وسوفياتيا ومصريا طبعا) فقط، بل أيضا بفعل تناقضاته الداخلية وانفجارها حروبا ومؤامرات في ما بين أطرافه، وهو مصير حتمي لجميع الأنظمة عندما تستنفذ مشروعيتها الاجتماعية-التاريخية، وتمسي رجعية، ولذلك يمكن اعتبار تواريخ استقلالات الشعوب والدول المستعمرة، هو بمثابة لحظات هزيمة ونهاية استعمار (أوربي) وسيادة الاستعمار الجديد (أمريكي) ومنذ ذلك لا يمكن فهم التطورات اللاحقة، دون اعتبار الاستمرار المتجدد لنفس الصراع بين استراتيجيتين الأوروبية والأمريكية.

إن مظاهر الازدواجية مغربيا، لا حصر لعددها، وذلك في جميع الاتجاهات، وإلا فمن عين وزير تربية فرنكوفوني؟ ومن يمنع تشكيل أكاديمية اللغة العربية؟ ومن وجه صياغة “مدونة تفكيك الأسرة”؟ بل والدستور نفسه؟ ومن فرض الجهوية “الموسعة” أو “المتقدمة” نحو الفدرالية؟ ومن يفرض الفوضى في تعدد “إدارات”: ما يسمى بالحقل الديني؟ ومن يفرض الدارجة والفرنكوفونية في الإعلام السمعي-البصري وفي الإشهار والواجهات التجارية؟ ومن شكل أخيرا اللجنة التحضيرية للمجلس الوطني للغات…”؟ ومن يفرض واقع التبادل التجاري مع العدو الإسرائيلي؟ ومن يقيم مهرجانات التمييع الثقافي والأخلاقي؟ ومن يعين العمداء؟ ولمن ينصب المدراء المركزيون في المالية خاصة، وفي القطاع العام للدولة أليس للمقرضين الدوليين، ومختلف الهيئات “الدولية” العولمية (الأمريكية في الحقيقة).

إن الجديد اليوم مغربيا، هو أن أمريكا لم تعد تقتصر وجودا ولا تراهن استقبالا على القطاع المدني مجتمعا واقتصادا وثقافة وتعليما وإعلاما ونقابات… بل ثمة مؤشرات على اختراقه للإدارة نفسها، خاصة منها المالية والاقتصادية (دون الترابية والأمنية) ويطمع جديا للتوسع بنكيا (=البنوك الإسلامية) وعلى حساب القطاع العام: الفوسفاط (يطالبون بنسبة 35%)– الأبناك والصناديق – الطرق السيارة – الخطوط – السكك…إلخ فضلا عن التعليم والإعلام التلفزي.

لم نعد إذن أمام حزب فرنسا التقليدي وحسب، ودولته العميقة، بل أضحينا مع منافس أمريكي له (وألمانيا أيضا) وهذا في نظري هو الدولة الثانية القائمة، وهي التي توجه ضدا عليها، الخطاب الملكي في الخليج ضدا على “الربيع” الأمريكي، الذي لا يفتأ، ومنذ 20 فبراير، يتحرك ضاغطا من أجل افتتاح الأسواق المغربية، وأحيانا احتكارها على حساب أوربا، وخاصة من ذلك السوق اللغوي-الثقافي، والسوق المالي والمعدني وسوق الخدمات…

دروس التاريخ تنبؤنا باستحالة استمرار الازدواجية، خاصة على مستوى إدارات الدول، مآلها أن تحسم لمصلحة طرف وعلى حساب الآخر، وغالبا ما يتم ذلك عنفا، الازدواجية تعرقل التنمية والديمقراطية… وتسهل إمكانيات الاختراق الأجنبي، ومن تم الفتنة والفوضى أو حتى الانقلاب، وذلك خاصة ببروز “بديل” ثالث (=حالة دولة “داعش” اليوم).

ألم يكن عدم التجاوب مع الخطاب الملكي النقدي والاحتجاجي في الرياض، في الإدارة وفي أحزابها، ذا دلالات سياسية خطيرة في هذا الصدد (؟!) لقد توضحت “الازدواجية” فاقعة بالمناسبة، بل ولقد تجرأ بعض “المخازنية” على انتقاد (الخطاب) علنا، فضلا عن تجاهله من قبل أغلبيتهم الساحقة بما في ذلك خاصة وسائط الإعلام الرسمية (؟!)

إن إهمال قضايا الاستقلال الوطني والوحدة (مغاربية-عربية..) بالتالي قضايا السيادة، لم يتم لمصلحة الانتقال الديمقراطي، بل على حسابه، ومن تم، فإنه لم يعد من المقبول ولا من الممكن، المقايضة بين المبادئ والأهداف، ذلك لأن هذا لا يتم عمليا سوى على حسابها جميعا، فلا ديمقراطية ولا تنمية دون استكمال الاستقلال والوحدة وترسيخ السيادة… ولا يتم ذلك بازدواجية، وأحرى بتعددية السلطة، بل بمركزتها ودمقرطتها في آن معا، سياسيا وثقافيا، وفي القطاعات الاستراتيجية اقتصاديا، وعندئذ فقط يزدهر اللاتمركز الإداري واللامركزية الجهوية.

وللأسف، فإن الأمل في النخبة أن تتحول إلى طليعة قائدة، أضحى اليوم بعيدا، مقارنة إلى الأمس القريب، فيسارها الوطني خاصة مستهدف بالحروب والتهميش، والليبرالي منها يائس غالبا ويفضل الهجرة، وجمهورها موزع بين إغراءات ورشاوى الخليج والغرب، ومنه الأمريكي طبعا، ووحدهم الإسلاميون (بعضهم) اليوم يستجيبون لبعض حاجيات الشعب في توفير شروط المقاومة، خاصة في الدفاع عما يعتبره هويته أو خصوصيته الوطنية: اللغة والأسرة والذاكرة.

4-الآفـــاق:

خلفيات الصراع ومحركه إذن خارجيان، حقيقة المنافسة، والتي تبلغ حد الصراع بين الرأسماليتين الأمريكية والأوروبية، واحتداده الراهن، ناتج عن أزمتهما العميقة والشاملة، ومحاولات كل منهما الخروج منها قبل غيره، ومن تم على حساب غيره، والكعكة المغربية ليست بالأقل أهمية في هذا الصدد وذلك حتى بالمقارنة مع بقية الأقطار العربية في المشرق، حيث الصراع وصل حد العنف الدموي وحالة التوحش.

مصلحة المغرب تكمن في علاقات متوازنة مع الوحشين، وباستقلال عنهما في نفس الوقت، ولا يتم ذلك سوى باعتماد الإرادة الشعبية مصدرا وحيدا لجميع الهيئات الوطنية المؤطرة والمشرعة والحكومية…إلخ. فضلا عن عقد تحالفات أكثر إنتاجية مع البلاد الشقيقة والصديقة، والأخرى التي لا تتناقض مصالحها الاستراتيجية مع مصالحنا، وأهمها بالطبع مجموعة “البركس” و”شنغهاي”.

لاشك أن العلاقة مع أوربا (فرنسا خاصة) هي الأرجح من حيث المصلحة الوطنية الاقتصادية-الاجتماعية مقارنة إلى أمريكا، غير أن العلمانية الفرنسية المتطرفة وربيبتها الفرنكوفونية يحولان دون ذلك، ويفسدان العلاقة في القطاع اللغوي-الثقافي والروحي-الأخلاقي. الأهم في نظر مغاربة اليوم مقارنة إلى مصالح السوق.

وفي المقابل فإن أمريكا التي لا غضاضة لديها على هذا المستوى الثقافي-الروحي نسبيا ومقارنة إلى فرنسا، لا تقبل التوازن في العلاقات الاقتصادية-الاجتماعية والسياسية بل فقط التبعية المطلقة والافتراس (؟ !) فيستحيل لذلك الاستعاضة بها في هذا الصدد عن الاستعمار الأوروبي (كالمستجير من الرمضاء بالنار؟).

وفي المقابل، فإن الطبقة الوسطى المغربية، سواء منها في المجتمع أو في الإدارة، هي اليوم شبه منقسمة بين خياري التبعية المطروح عليهما. إن النفوذ الأمريكي يزحف وبوسائط متعددة، بما فيها استعمال أتباعه في الخليج، ونفوذهم على الساحة الوطنية. وجديده الراهن، هو تمدده مما يسمى ب: “المجتمع المدني” نحو الإدارة نفسها الممتنعة عليه حتى الآن، والمتحصنة فرنكوفونيا، ولهذا فهو يستعمل ضدا عليها “المجتمع المدني” وخاصة منه الصحافة المكتوبة، والتي تعتبر في أهم إصداراتها بالعربية، ذات طابع أمريكي أو بالأقل مزدوج الولاء ومنافق.

إن صراع الاستعمارين على الساحة الوطنية، ينعكس سلبا على الأحزاب نفسها، وما نلاحظه حاليا من أنواع الانقلابات في قياداتها، والناتج خاصة عن أنواع التدخلات الخارجية على هيئاتها (مؤتمراتها خاصة) هو اليوم من أشد الأضرار الناتجة عن صراع الامبرياليتين.

إذا استمر الوضع على ما هو عليه، وأمام الضعف الاستراتيجي والبنيوي للرأسمالية الفرنسية، بل ولعموم الاتحاد الأوربي المهدد بالتفكك نظير سابقه الاتحاد السوفياتي؟ فإن الأفق لا ينذر سوى بانتصار الخيار “الأمريكي” ولن يتم ذلك مسلما بحال، ذلك لأن المعسكر الفرنكوفوني لن يستسلم بسهولة.

إن الخيار الثالث (أو الأول بالأحرى) يقتضي إعادة إنتاج الوفاق الوطني، وذلك على أسس أوسع إطارا وأعمق تجذرا، وذلك لجميع مواثيق الوحدة الوطنية، بما في ذلك الميثاق الدستوري، فهل ستبادر نخبة الإدارة، قبل نخب المجتمع، إلى خطوة من هذا القبيل وقبل الانتخابات التشريعية بل والمصيرية المقبلة، والتي تتهددها الكثير من الأخطار المحدقة بمسيرتها وبنتائجها؟ أم أن المطامع الفئوية الضيقة، والكسل الفكري، وبؤس الوعي السياسي وعدم الجرأة.. هو الذي سيستمر متغلبا على الساحة الوطنية بجميع مكوناتها(؟!)

الأمل مرة أخرى في مبادرة شجاعة وحاسمة من قبل المؤسسة الملكية كما سبق وبادرت (75-96-2011). وتلكم وظيفتها المركزية دائما، وخاصة اليوم في أفق التفعيل العملي والميداني لتنزيل الخطاب الملكي الأخير في مجلس التعاون الخليجي على الساحة الوطنية وعلى مصيرها.