حرب ترامب الاقتصادية

في المناظرات الأربع الأخيرة التي جمعت المرشحين للانتخابات الأمريكية، تكررت كلمة “الصين” باستمرار. ولم يكن هناك اختلاف في الشعور بالخطر بين المرشح الجمهوري ونظيره الديمقراطي، إذ يشعر كلاهما بالتحدي والخطر الصيني، وإن اختلفت طرق المعالجة. لذلك، نجد أن الرئيس ترامب كان الأكثر حماسة لمواجهة الصين منذ إعلان تأسيسها على يد ماو تسي تونغ في الأول من أكتوبر سنة 1949.
للمواجهة أسباب متعددة، ولعل أبرزها تراجع الأفضلية الصناعية للولايات المتحدة الأمريكية لصالح الصين، حيث بات الاقتصاد الأمريكي يركز أكثر على قطاع الخدمات ويحقق فائضًا في هذا المجال على المستوى العالمي، في حين شهد تراجعًا كبيرًا في أغلب الصناعات.
لكن الحرب التجارية بين أكبر اقتصادين في العالم اتخذت هذه المرة طابع “لا تراجع” من طرف أمريكا، و”القتال حتى النهاية” من جانب الصين. وتكمن الخطورة في أن الولايات المتحدة تستهلك حوالي 30% مما يُنتجه العالم، وتُساهم بنسبة 24% في الاقتصاد العالمي، بينما تنتج الصين 18% من الإنتاج العالمي وتستهلك 15% فقط، رغم أن عدد سكانها يفوق عدد سكان الولايات المتحدة بأربع مرات.
وتُعدّ المبادلات التجارية بين البلدين كبيرة، إذ تصدّر الصين إلى السوق الأمريكية ما قيمته 440 مليار دولار، بينما تستورد من الولايات المتحدة حوالي 140 مليار دولار فقط.
في هذا المقال، سنركّز على نقاط قوة الصين، على أن نتطرق في مقال لاحق إلى الأسلحة الاقتصادية الأمريكية في هذا الصراع غير المسبوق.
تتمحور خطة الرئيس ترامب حول استرجاع الصناعات التي هاجرت من أمريكا إلى الصين ودول أخرى، وتوطينها في بلدها الأم، أي الولايات المتحدة. غير أن هذا التوجه يلقى معارضة كبيرة من قِبل الشركات الأمريكية متعددة الجنسيات، ومن بينها شركة “آبل” العملاقة، التي تفوق قيمتها السوقية الناتج الداخلي الخام لدولة بحجم فرنسا تقريبًا. وقد صرّح رئيسها التنفيذي، تيم كوك، أن وجود معامل التجميع في الصين لا يعود فقط إلى اليد العاملة الرخيصة، بل إلى المهارات المتوفرة لدى العمال والمهندسين هناك. وأضاف: “عندما نعقد اجتماعًا مع المهندسين في الولايات المتحدة، يتم ذلك في قاعة صغيرة وبحضور محدود، لكن في الصين قد نحتاج إلى ملعب كرة قدم إذا أردنا جمع جميع المهندسين”.
إضافة إلى ذلك، فإن هاتف “آيفون” يحتوي على 386 قطعة تأتي من 187 شركة، منها 169 شركة توجد في الصين وتايوان. لذلك، فإن نقل معامل التجميع إلى أمريكا أمر صعب ويكاد يكون مستحيلاً. ويؤكد هذا الاتجاه تقرير صادر عن بنك “أوف أمريكا” بتاريخ 10 أبريل، جاء فيه أن تصنيع هاتف آبل في أمريكا سيؤدي إلى ارتفاع سعره بنسبة لا تقل عن 95%.
أما المسألة الأخرى، فتتمثل في أن 72% من المعادن النادرة التي يحتاجها السوق الأمريكي تأتي من الصين. وتُستخدم هذه المعادن في كل شيء، من الطائرات إلى الهواتف الذكية، والأقمار الصناعية، والسيارات الكهربائية، وغيرها. وتُعد الصين السوق الأول عالميًا في تطوير هذه المعادن وتوفيرها للقوى الصناعية الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة.
كما برزت خلافات داخل إدارة الرئيس ترامب، خاصة مع كبير مستشاريه إيلون ماسك، أغنى رجل في العالم والرئيس التنفيذي لشركة “تسلا” للسيارات الكهربائية، إذ تمتلك الشركة مصانع للتركيب في الصين، ويشكل السوق الصيني 20% من مداخيلها. فالصين تتجه نحو الطاقة النظيفة بسبب غياب مصادر الطاقة التقليدية مثل النفط والغاز الطبيعي. وقد عبّر إيلون ماسك أكثر من مرة عن رفضه فرض رسوم جمركية كبيرة على الصين.
وتستورد الصين عددًا من المواد الفلاحية واللحوم والدواجن من الولايات المتحدة، مثل فول الصويا الذي تنتجه ولايات الغرب الأوسط الأمريكي، ومنها إنديانا وأيوا، وهما الولايتان اللتان صوتتا لصالح ترامب. لكن الصين بدأت تقلص وارداتها من فول الصويا الأمريكي وتُعوّضها بالاستيراد من البرازيل، ما يشكل تهديدًا لقاعدة ترامب الانتخابية.
غير أن من أبرز نقاط القوة التي تصب في صالح الصين مقارنة بالرئيس الأمريكي، أن الصين ليست دولة ديمقراطية، بمعنى أن الرئيس الصيني شي جين بينغ يحكم منذ عام 2013، وقد عاصر أربعة رؤساء أمريكيين. في المقابل، يواجه ترامب تحديًا كبيرًا يتمثل في الانتخابات التشريعية في نوفمبر 2026، حيث سيتم تجديد ثلثي مجلس الشيوخ وكامل مجلس النواب. وأي انتكاسة اقتصادية قد تؤدي إلى خسارة الجمهوريين للمجلس، ما قد يحوّل ترامب إلى “بطة عرجاء”، ويُعجزه عن تنفيذ السياسات التي وعد بها ناخبيه. كما أن توطين الصناعات داخل أمريكا يتطلب سنوات، وإذا نجحت الخطة، فقد يستفيد منها رئيس قادم، وليس بالضرورة الرئيس الحالي ترامب.
غازي هلال كاتب صحفي متخصص في الاقتصاد السياسي
تعليقات الزوار
معطيات مفصلة نبارك الله على الكاتب
مقال رائع و مفصل بالتوفيق