الرياضيات بين المنهاج والممارسة.. قراءة في أزمة الفهم والتحصيل

تحتل مادة الرياضيات مكانة مركزية داخل المنظومة التعليمية المغربية، إذ تشكل حجر الزاوية في التكوين العلمي والتقني، وتُعد من المؤشرات الدالة على جودة التعليم وفعاليته. ورغم هذه الأهمية الاستراتيجية، فإن الواقع المدرسي المغربي يشهد مفارقة حادة بين الطموحات المعلنة في الوثائق الرسمية وبين الأداء الفعلي للمتعلمين داخل الفصول الدراسية. فقد أضحت الرياضيات في المخيال المجتمعي رمزاً للتعقيد والصعوبة، وصار تدريسها مجالاً خصباً لتناسل الإحباطات التربوية وتمركز الفشل الدراسي، ما يدفع إلى طرح السؤال الجوهري: لماذا تحوّلت الرياضيات من أداة لبناء الفكر العلمي إلى معضلة بنيوية داخل المنظومة التعليمية المغربية؟
يتجلى أول مظاهر هذه المعضلة في ضعف مكتسبات التلاميذ في مادة الرياضيات، وهو ما تؤكده نتائج التقويمات الوطنية والدولية، كالدراسة الدولية لتقييم التحصيل في الرياضيات والعلوم (TIMSS) والتقويم الوطني لمنظومة التربية والتكوين (PNEA)، حيث يحتل المغرب مراكز متأخرة مقارنة بدول مماثلة له من حيث الإمكانيات. ويرتبط هذا الضعف بجملة من العوامل المتداخلة، بعضها يرتبط بطبيعة المادة نفسها، وبعضها الآخر بمناهج تدريسها، فيما يتعلق جانب ثالث بالتمثلات الاجتماعية والثقافية السائدة حولها.
تتميز مادة الرياضيات ببنية مفاهيمية تجريدية تتطلب مستويات متقدمة من التفكير المنطقي والاستدلالي. غير أن المقررات الدراسية في السياق المغربي كثيراً ما تقدم المفاهيم بطريقة فجائية وغير تدريجية، مما يجعل المتعلم يصطدم بجدران من الغموض بدل أن يمر عبر مسارات بنائية تدريجية. ويعود هذا الخلل إلى اختلالات في هندسة المنهاج الدراسي، إذ تعاني البرامج من غياب الانسجام بين الأسلاك والمستويات، كما تفتقر إلى تصور حلزوني يراعي تراكم الكفايات وتداخل المفاهيم بشكل سلس وطبيعي.
إلى جانب ذلك، يسهم ضعف التكوين البيداغوجي والديداكتيكي للأساتذة الذين هم في طور الانقراض بسبب النفور من التخصص بالجامعات المغربية في تأزيم وضعية الرياضيات، حيث ما زال اعتماد المقاربة التقليدية في التدريس سائداً، وهي مقاربة ترتكز على الشرح المباشر والتطبيق النمطي دون تفعيل حقيقي للمقاربة بالكفايات أو البيداغوجيا النشيطة و ذلك لعدة اعتبارات وتُختزل العملية التعليمية في تلقين القواعد ومطالبة المتعلم بإعادة إنتاجها، مما يفقر قدراته على التحليل والتركيب، ويجعل المادة جافة ومجردة، بعيدة عن اهتماماته وتجاربه اليومية
وتتفاقم المعضلة حين نُقحم العامل الثقافي والاجتماعي في التحليل. فقد ترسّخت لدى شرائح واسعة من المتعلمين وأوليائهم صورة نمطية سلبية عن مادة الرياضيات، باعتبارها مادة للنخبة وذوي القدرات الاستثنائية، الأمر الذي يعمق الإحساس بعدم الكفاءة ويعزز القلق والخوف من الفشل. وتنتج هذه التمثلات، في جزء كبير منها، عن تجارب دراسية سابقة سلبية، وعن ممارسات تعليمية غير مشجعة، الأمر الذي يؤدي إلى عزوف عدد كبير من التلاميذ عن التخصصات العلمية والتقنية في المستويات العليا من التعليم الثانوي والجامعي.
كما أن تقييم تعلمات التلاميذ في مادة الرياضيات يظل حبيس منطق الكم والسرعة، إذ يركز على النتائج النهائية دون الاهتمام بكيفية بناء الحلول وفهم العلاقات بين المفاهيم. وبهذا يصبح التقويم أداة لإقصاء المتعلم وتصنيفه، بدل أن يكون وسيلة لتشخيص الصعوبات ومرافقة التعلم. ولا يخفى أن السياسات التعليمية المتعاقبة لم تنجح بعد في إحداث القطع اللازم مع هذه الممارسات، رغم ما عرفته البرامج والمناهج من تعديلات وتحديثات متفرقة.
إن تجاوز هذه الأزمة يفرض تصوراً إصلاحياً متكاملاً ينطلق من إعادة النظر في المنهاج الدراسي برمته، من خلال بناء برنامج رياضياتي يراعي التدرج النمائي للمتعلمين، ويعتمد على سياقات تعليمية حيوية توظف تمثيلات متعددة وتقنيات رقمية حديثة، وتربط التعلمات بحاجات المتعلم ومحيطه الاجتماعي. كما أن تأهيل المدرسين ينبغي أن يشكل محوراً أساسياً في هذا الإصلاح، من خلال توفير تكوين ديداكتيكي معمق ومستمر، يرتكز على الممارسة العملية والبحث التربوي، ويعزز القدرة على التنويع البيداغوجي والتدبير الفعال للتباين داخل القسم.
وفي الوقت ذاته، لا يمكن إغفال أهمية العمل الثقافي الموازي، الذي يعيد الاعتبار لصورة الرياضيات داخل الفضاء المدرسي والأسري والإعلامي، ويُسهم في بناء علاقة إيجابية بين المتعلم والمادة، علاقة تقوم على الفضول العلمي وحب الاستكشاف لا على الخوف والانغلاق. كما ينبغي إعادة النظر في أدوات التقويم وأساليبه، حتى تصبح منفتحة على مكونات جديدة مثل التفكير المنطقي، والاستدلال الرياضي، والقدرة على تفسير الظواهر وتوظيف النماذج الرياضية في معالجة وضعيات من الحياة الواقعية.
إن معضلة الرياضيات في المدرسة المغربية ليست مجرد مشكلة تقنية في طرق التدريس أو صعوبة في استيعاب المفاهيم، بل هي مرآة لعطب أعمق يمس النسق التربوي في كليته، ويتطلب معالجته إصلاحاً شمولياً يربط بين التجديد البيداغوجي والتحول الثقافي، ويجعل من تعلم الرياضيات تجربة عقلية محفزة وممتعة، لا عبئاً دراسياً ثقيلاً، ويُخرجها من جمود الأقسام إلى دينامية الحياة.
إن تجاوز معضلة الرياضيات في المنهاج الدراسي المغربي يتطلب مقاربة شمولية، تمس المناهج، الممارسات، التكوين، والتمثلات المجتمعية. فمستقبل أي إصلاح تعليمي جاد يمر حتماً عبر تأهيل الرياضيات كمادة للتفكير، لا للخوف؛ للإبداع، لا للحفظ؛ وللتعلم المستمر، لا للفصل الدراسي فقط.
اترك تعليقاً