منتدى العمق

نداء التضحية يقابل بـ”مستنقع الجهل”

كل مرة، يخيب ظني ازاء بعض الناس، الذين لازالو يغرقون في مستنقع الجهل، ينسون دروس التاريخ، وينسىون ما تعنيه المواطنة الحقة. كيف نُفسر أن يُصدر ملكنا محمد السادس قرارًا نابعًا من رحم الحكمة والرؤية السديدة، يُراعي فيه ظروف الوطن القاسية: غلاء المعيشة، جفاف الأرض، شح المراعي، ومسؤولية الحفاظ على الثروة الحيوانية التي تعتبر رصيدًا لا يُستهان به في ظل الأزمة؟

كان ذلك القرار نداءً صريحًا للمواطنين، يطالبهم بالتضحية، بالإيثار، بالالتزام، بالحس الوطني الذي لا يعلى عليه.

لكن، ويا للأسى، جاءت ردود الأفعال مخيبة للآمال، ومؤلمة بعمق!

أقدمت جماعات من الناس على فعل يعكس غياب الوعي والمسؤولية، نهبوا الأسواق، تخاطفوا الأضاحي في صمت خيانة، اشتروا اللحوم المدبوحة بطريقة غير شرعية، وارتفعت أسعار “الدوارة” و”الكرشة” إلى مستويات خيالية، حتى أصبحت رفاهيةً لا تتاح إلا لقليلين.

أي غباء هذا؟ وأي قسوة على الوطن والقائد؟

لقد فقدنا روح المواطنة، التي هي أساس كل مجتمع متقدم. أصبحت الأنانية تطغى، وتزدهر ثقافة الفردانية، وتُهمش القيم السامية كالتضامن، والتعاطف، والاحترام المتبادل.حين يرفع قائد البلاد صوته بنداء حكيم ينبع من روح المسؤولية والحرص على مصالح وطننا، لا بد أن يُستجاب له دون تردد أو تأجيل.

لقد صدر قرار جريء وصعب بإلغاء شعيرة الأضحية هذا العام، في ظل ظروف استثنائية قاهرة: غلاء فاحش في المعيشة، جفاف ينخر الأرض والمراعي، وندرة في الثروة الحيوانية التي تُعد رصيدًا حيويًا لشعب يقارب الأربعين مليون نسمة، لم يكن هذا القرار إلا تعبيرًا عن الحكمة الملكية في حماية المواطن، واستقرار الأسواق، وضمان استمرار القطاع الوطني للأغنام والماعز.

قال الله تعالى في كتابه الكريم:
“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ”.

وهنا، يظهر جليا كيف أن طاعة ولي الأمر ليست مجرد واجب ديني، بل هي ركيزة أساسية في استقرار المجتمع وازدهاره، وأساس للحفاظ على الوطن لكن للأسف، في الوقت الذي كان ينبغي فيه أن يُثبت الشعب ولاءه ووعيه، و نأيد قرارات ملكنا بكل احترام وحكمة، كانت الحقيقة أكثر مرارةً وأشدّ ألماً.
خرجت أصوات التمرد والعشوائية، واختفت قيم الانضباط والالتزام، وكأن تلك القيم كانت مجرد كلمات تُتلى بلا معنى.

تحولت الأسواق إلى ساحة فوضى، واختلطت الأنانية بالجهل، وانهال البعض على اقتناء الأضاحي بأعداد كبيرة، متجاهلين تمامًا قرار الإلغاء، ومتحدّين تعاليم دينهم وقيم مجتمعهم.

كيف نقبل أن يُهان قرار جلالة الملك، الذي قرر التضحية هو وأسرته الكريمة، ذبحًا للأضحية على شرف الوطن والشعب، ونحن نتهاون بهذا الشكل؟
إن ما حدث ليس مجرد مخالفة، بل هو خيانة صريحة للثقة، وانتهاك لقيم المواطنة، وازدراء لقيادة رشيدة لا تريد إلا الخير لهذا الشعب.

وأي وطنية تلك التي تتخلى عن مصلحة البلاد في لحظة امتحان؟ وأي إيمان ذلك الذي يُستخف به بهذا الشكل، ويُختزل في إشباع الشهوات فقط؟
لقد أصبح الوعي غائبًا، وأصبحت الأنانية مستشرية، وأصبحنا نشاهد ما لا يُصدق من تصرفات لا تعكس سوى قلة المسؤولية والتهاون بالمصير الجماعي.

تلك اللحظات التي يجب أن يتوحد فيها الجميع، نرى فيها أبشع صور التنافر، إذ يشتري البعض اللحوم المدبوحة سرًا، وتُباع الكرشة بأسعار خيالية، وتُذبح الأغنام في ظروف غير شرعية، ليغدو الأمر تجارة رابحة على حساب الجميع كيف نطالب بالتقدم والازدهار ونحن نحطم قواعد العيش المشترك؟ كيف نريد لشعبنا أن يحيا في كرامة إذا كنا نحن أول من يهدد تلك الكرامة بأفعالنا الطائشة؟

هذه التصرفات ليست فقط عدم احترام لقرار ملكي صادق، بل هي سقوط أخلاقي وانحدار وعي عميق، تجعلنا نعيد النظر في مدى استعدادنا لأن نكون شعبًا واعيًا ومسؤولًا، فأين ذهبت هذه المسؤولية؟ وأين ذهبت أمانة الوطن في نفوسنا؟

لقد شهدنا من قبل، في أيام جائحة كورونا، كيف أن الالتزام كان مطلبًا دينيًا وأخلاقيًا، إلا أن الاستهتار بالقرارات الرسمية حال دون ذلك، وتكرر المشهد المؤسف ذاته، فأصبحنا ندور في حلقة مفرغة من عدم الوعي والعشوائية.

لا شك أن الفشل في إعمال قيم الانضباط والطاعة، يؤدي إلى التراجع، ويعرض الوطن لمخاطر جسيمة، فلا كرامة ولا رفعة لأمة لا تحترم قيادتها، ولا تحترم نفسها، فإذا كنا نطمح لأن نكون أمة قوية، فعلينا أن نتعلم معنى الولاء الحقيقي، ومعنى الطاعة الحقة، ونرتقي بوعي الجماعة إلى مستوى المسؤولية التي تفرضها علينا الظروف، وإلا، فسنظل أسرى لأنانية قصيرة النظر، ونتعرض لعواقب ما لا تحمد عقباها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *