منتدى العمق

زمن الرداءة… سياسة الارتطام بالحائط

لا مناص من الإقرار بحقيقةٍ لا يداخلها الشك، حقيقةٍ ظاهرة لا تغرب عنها الشمس، وهي أن المجتمع المغربي، وفق ما وصفه رائد السوسيولوجيا الميدانية “بول باسكون”، مجتمعٌ مركبٌ ومتناقض. هذا التركيب البنيوي لا يقوده، في اللحظة الراهنة، سوى إلى مزيدٍ من التشرذم والتفكك، في ظل استمرار مظاهر التخلف والتبعية، وغياب مشروع حضاري أخلاقي قادر على لمّ شتات القيم.

وفي ظل هذه المعطيات، يحق لنا أن نتساءل: هل توجد قيادةٌ عقلانيةٌ ورشيدةٌ قادرة على توجيه هذا المجتمع المتعدد نحو مشروع تنموي إنساني خلاق؟ أم أن مصيرنا أن نظل رهائن لصراعات إثنية وهوياتية، ولأوهام قبليةٍ عفا عنها الزمن؟ وهل تظل السلطة مصرةً على تبني استراتيجية الخوف والقمع عوض الرهان على بناء إنسانٍ أخلاقيٍّ قادرٍ على التمييز بين الحق والواجب؟

للإجابة عن هذه الإشكالات، نقترح تناول ثلاث مستويات تحليلية، علّها تسهم في تفكيك بنية الأزمة، وتسليط الضوء على أبرز تمظهراتها، خصوصاً في ما يتصل بأزمة القيم والعنف الرمزي المتفاقم.

أولاً: بين انبطاح المؤسسة التعليمية وسطوة الكراسة

يقول “عبد الله حمودي” في كتابه الشيخ والمريد:

“الشيخ ليس فقط شخصًا، بل هو مؤسسة رمزية تنتج الطاعة وتعيد إنتاجها.”

هذا القول يلخص بدقة الإشكال البنيوي داخل المؤسسات التربوية. فالثنائية السلطوية التي تحكم علاقة “الشيخ والمريد” ما تزال حاضرة بقوة في المدرسة والجامعة المغربية، حيث لا تزال البيداغوجيا التقليدية تُنتج الخضوع وتُكرّس السلطوية. وبينما يُفترض بالمؤسسة التعليمية أن تُحرّر الفكر، نجدها تساهم، بفعل مناهجها ومضامينها، في إنتاج أنماط خاضعة، غير قادرة على التفكير النقدي أو التحليل المنهجي.

الطالب اليوم لا يعدو أن يكون “قُربةً تُملأ”، بتعبير رمزي، في غياب تام لأي تحفيز على التساؤل أو مساءلة السلطة المعرفية. أما الإعلام، فقد لعب دوره في تطويع الوعي الجماعي، ليخلق نموذجًا هشًّا من المواطنين، منزوعي البوصلة القيمية، مستهلكين بلا قدرة على الإنتاج أو الممانعة.

وفي هذا السياق، يستحضر “بيير بورديو” المفارقة بقوله:

“المدرسة تدّعي الحياد، لكنها في الواقع تُعيد إنتاج اللامساواة الاجتماعية.”

إننا، في الحقيقة، أمام مؤسسة تُكرّس الأعطاب المجتمعية ولا تعمل على تجاوزها. فرغم خطابات الإصلاح، لا تزال المدرسة تنتج نفس البنيات الطبقية، وتُعمّق الفوارق المجتمعية عبر مضامين دراسية بليدة، فاقدة للسياق والمعنى.

ولعل المفكر “أحمد جسوس” كان محقاً حين صرّح:

“يريدون أن يخلقوا جيلًا من الضباع.”

أما “البديل البيداغوجي” المقترح من طرف بعض المسؤولين، كـ”بيداغوجيا الهيب هوب”، فلا يعدو أن يكون حلاً تجميلياً، يخفي عمق الأزمة ولا يملك من أدوات الإصلاح سوى الاسم.

ثانيًا: تفكيك منظومات الرقابة وتغوّل الإعلام الهجين

تشهد الصحافة التقليدية تراجعًا مقلقًا، أمام صعود “إعلام القرب المختلِس”، أو ما يُمكن تسميته بالإعلام التيكتوكي. هذا الإعلام، الذي يقتات على الفضائح والجرائم، لا يقدّم للمتلقّي إلا صورًا مشوّهة ومجزوءة عن الواقع، ما يُسهم في تطبيع العنف، وترسيخ الإحساس بالعجز واللاجدوى.

هكذا، يغدو المواطن محاصرًا يوميًا بسيل من الأخبار العبثية والمقاطع المصوّرة التي تُغذي اللاوعي الجمعي برموز التوحش، وتُحوّل المأساة إلى مادة ترفيهية.

إنه نوعٌ من العنف الرمزي المتخفي، يُسهم في هدم أسس الوعي النقدي، ويُقوّض الصحافة الحقيقية التي من المفترض أن تُحصّن المجتمع معرفيًا وأخلاقيًا، وتعيد ربطه بتاريخه وهويته.

ثالثًا: أحزاب بلا روح، ومجتمع مدني يسعى وراء المانحين

أضحى المجتمع المدني المغربي، الذي يُفترض فيه أن يُجسّد الوساطة بين الدولة والمجتمع، فاعلًا هشًّا وموسميًا، يقتات على المنح الخارجية، بدل أن ينتج حلولًا محلية من رحم معاناة المواطنين.

ولعل النموذج الصارخ يتمثل في تعامله مع ملف الهجرة. فبدلاً من تشريح الظاهرة اجتماعيًا، وفهم تداعياتها الديموغرافية والاقتصادية، تحوّلت هذه الظاهرة إلى مادة لتقارير تُقدّم للمانحين الغربيين من أجل ضمان استمرارية الدعم. إنها “بيروقراطية المنح” بدل دينامية الفعل الميداني.

أما الأحزاب، فقد تحوّلت إلى كيانات صورية، أشبه بديكور سياسي بلا قاعدة شعبية أو شرعية رمزية. إنها تعيش موتاً بطيئًا، يتجلّى في غياب “المثقف العضوي” حسب تعريف أنطونيو غرامشي، الذي يقول:

“المثقف العضوي هو الذي يلتحم في صفوف الجماهير.”

أحزابنا فقدت هذا الرابط، وتحولت إلى دكاكين سياسية، لا تهتم سوى بالبيع والشراء، والمقايضة على حساب القضايا الحقيقية للوطن والمواطن.

في نهاية المطاف، يمكن القول إن المغرب يعيش مفارقة عميقة: ففي الداخل، تسوّق الدولة لنفسها باعتبارها “دولة رعاية” (État Providence)، بينما ينظر إليها الغرب باعتبارها “دولة دركية” (État Gendarme)، وظيفتها الأساسية ضبط الحدود ومراقبة المهاجرين.

ما أحوجنا اليوم إلى مراجعة شاملة للمنظومة التربوية، والإعلامية، والسياسية، بما يُعيد الاعتبار للفكر النقدي، والعمل الميداني، والمشاركة المجتمعية الحقيقية. وإلا، فإن سياسة الارتطام بالحائط ستبقى العنوان الأبرز لمرحلة الرداءة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *