مجاعة غزة…عندما تكون الجاهلية أسمى من التمدن

منذ أن منَ الله عليّ بموهبة الكتابة في الفكر والتحليل في السياسة، رأيت نفسي لأول مرة أن قلمي يتوقف ويعجز عن الكتابة، كلما أتأهب لقول شيء واجمع الكلمات وشتات الأفكار لصياغة جملة أو فقرة كنت أتوقف لأن ما من كلمة قادرة على تصوير أو التعبير عن خلجات النفس، إن مستوى الهول أعظم من قدرة كل أديب أو كاتب، حتى الرحمة والعون الإلهي اللذان ينزلان عليّ حينما أكتب، لم أكن أتجرّأ الإعتماد عليهما لأن تلك تنزل بعد الشروع في الكتابة التي ما كان بابه يفتح لي، كل ذلك ليس لأن الأحساس قد تبلّد، ولا لأن الشعور قد تجمّد، ولا لأنّ الحبر قد انتهى، ولا لأنّ الدافع قد توقّف، لكن لأن المصيبة كانت أكبر، ولأن الفتنة كانت فوق الطاقة، ولأن البلاء كان أعلى من قدرة البشر، والمشاهد كانت فوق إملاءات الخيال، والأدمغة لم تكن قادرة على تصورها، عندما كنتُ أرى حالي وحال الآخرين من أبناء هذه الأمة وننظر إلى الصور التي لو لم تكن نعمة آلة التصوير، ولولا أن هيأ الله أسوداً من عباده، فإنّ العقل لم يكن ليتقبلها لو جاءت تلك المشاهد المفجعة على لسان راويٍ، أو عبْرَ مِدادِ كاتبٍ مؤرّخ.
لأسابيع وشهور بدأت أتساءل: هل تبلّد الإحساس؟ هل تمكن الطغيان البشري من تعويدنا على رؤية أهلنا يموتون، والتعايش مع سقوطهم في الشوارع؟، يموتون ليس لأنهم يقتلون بالأسلحة الغربية فحسب، إنما يموتون لأنّهم جوعى محاصرون، ممنوع عليهم الأكل ليشبعوا، وممنوع عليهم الشرب ليرتوا، ممنوع عليهم السكن للإيواء، يموتون لأن المعدة خاوية، ولأن العظام تتفتت، ولأن الأدمغة تتوقف، أجسادهم تتساقط على طريق البحث عن الغذاء وشربة ماء، بعد أن تفقد القدرة على السير، فتتهاوى، لا شريان بقت، ولا عظام تحملت، ولا جلود قاومت، إن إجسادهم تذوب من العطش والجوع والتعرض لحرارة الشمس ولهيب نار القنابل، هم أحياء بعظام المقابر وأجساد محنطة.
إنّ وحشية الاعمال التي يحدث لأهل غزّة، تففوق نسبة الوحشية الحاكمة في غابات الأمازون، لقد قرأت كتاب “جون تيلور” عن حياته بين حيوانات ووحوش أمازون لمدة ست سنوات، بين الثعابين والحيايا والعقارب والقردة والخناير والغول، في الأدغال، كان في العيش معهم من القوانين المرعية أكثر مما هي لدى أهل الحضارة الحديثة، وفيها من الأصول أكثر مما هي لدى أصحاب القوانين والمعاهدات الموسومة بالإنسانية، وفي التعاون بين أهل قبائل الغابات أكثر مما هو بين عشير أهل غزة، إنّ أهل الجاهلية السابقة أكثر نخوة من أهل العلم الحديث، أبناء التخلف أسمى شعوراً من أهل التمدن.
يحتاج إلى جرأة كبيرة من يتعرض لشرح الحديث النبوي: ” مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى”؟، فالحصار المطبق على غزة ليس من الكيان المحتل فحسب، ليس هو الجهة الوحيدة التي قررت مذبحة جماعية وتجاهر بها، أو ساومت وراهنت عليها، وتحويل أرض غزة كلها الى مقابر الإبادة العرقية وتتبناها، إنّ أهل العشير هم جزء من عمليات التطهير العرقي التي تنفذ الآن بحق سكان غزّة، أهل العشير الذين يحيطون بهذه البقعة الصغيرة جداً من الأرض هم الّذين يضعون حِبال الإعدام في رقبة الأطفال والنساء والشيوخ الفلسطينيين، إنّ الدائرة الجغرافية المحيطة بأهل غزة أضحت الحبال السميكة تلفّ لفاًّ يفتفر إلى الرحمة على أحشاء سكانها ليموتوا موتة ترافقه شعور بألم شديد، هو ما قالته “غولدا مائير”: – “إن محمداً قد مات وخلف من بعده بنات”، ربما خلفه أكثر نعومة من نعومة البنات، فقد رأينا في حياتنا من البنات بطولات ما تخجل أمامها رجال لا يستحقون من وصف سوى أنهم ذكور.
إنّ خنق غزة يأتي من غلق الحدود، من الذي يغلق الحدود؟ ومن القادر على فتحها؟ إن المسلمين الذين هم على بعد كبير جغرافياً من حدود غزة، أو ليسوا بقادرين الوصول اليها، قد يجدون التعذر والتحجج بأنهم عُجّزْ عن فعل الواجب، لكن ما بال القريب؟، ما لهذه الأمة التي تتباهى بأنها وليدة؟ وتتفاخر ببأس أبنائها، وتحرر بناتها؟ ما لهذه الشعوب التي تسمع صوت صحيات الجوعى، وآهات الثكلى من شدة قربها من الأرض المحروقة؟ مالذي حدث لها؟
إنّ القضية هنا ليست الدين فإنه مشوش، ولا التدين فإنه متدني، ولا العقيدة فإنها باردة، ولا الإنتماء المدرسي فإنه مشتت، فقد سبق أحرار الغرب من الملحدين أهل الايمان، وقد سبق أهل الفكر البشري أهل الفكر السماوي في الشهامة، إن القضية هنا هي الانسان، هي القربى في الدم، هي الحسّ الإنساني الذي يعتمد عليه القرآن في إثارة النخوة والشعور الوحدوي، هي حلف الفضول الجاهلي الذي مما يفتخر به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في حياته قبل النبوة.
نحن في ظل مذبحة غزة نعيش في عالم متخلف بالمعيار الإنساني، في ظلها تظهر العصور الوسطي أكثر تنويراً من هذا العصر الذي يتلجج بتنوير الفضاء الأسود.
لقد عدنا نتيجة الأحداث التي تلمّ بنا إلى حياة الغاب، حياة سيطرة القوة الباغية، حياة أن القوي هو الحاكم والحاكم القوي هو القانون والأصول، تخطت عقلية التوحش المعاهدات الدولية، والاتفاقيات الإنسانية، لا يخجل الانسان الحديث من الدوس على إنجازات عصوره التي يصفها بالتنوير، تخيلوا أن الأمم المتحدة ترفض إعلان المجاعة في غزة.. يا لله..
ربما في كلمات السيدة فراشيسكا ألبانيز- الإيطالية- المقررة الخاصة للأمم المتحدة لحقوق الانسان- أدق تعبير لمعاني الحرية والكرامة، فرضت الولايات المتحدة عقوبات عليها لأنها التزمت بميثاق حقوق الإنسان تجاه أهل غزة، وكانت تلح إلحاحاً شديداً على أن الانسان في غزة تواجه الموت بسبب المجاعة، ونقلت صور الأطفال وهم يسقطون أرضاً بأجساد منهكة خائرة لا قوة فيها، متهمة سطات الإحتلال بإرتكاب إبادة جماعية بحق السكان المدنين، فتحركت سلاطين حقوق الانسان الكاذبة في العالم الحرّ لتضييق الحركة عليها، لكنها قالت ببلاغة المرأة الحرّة :” لا أخاف على حرّيتي وإنما على الولايات المتحدة الأمريكية أن تتحرر”، صدقت مع مبادئها التي تربت عليها، ولم تبرر تحت أي ذريعة دبلوماسية أو مصلحية شخصية أو سياسية أعمال القتل بحق الفلسطينيين، جسدّت البعد الجواني لمعاني الحرية التي عجز المسلمون عن تجسيدها إلا بين أوراق الكتب.
اترك تعليقاً