الاحتجاج وتقييم السياسات العمومية

تعتبر الثقة في مؤسسات الدولة مؤشرة لمدى قياس نجاح أو فشل السياسات العمومية الاجتماعية. فالسياسة العمومية، ليست مجرد خطط وبرامج تقنية، بل هي عقد اجتماعي يعكس قدرة الدولة على الاستجابة لانتظارات الفئات المستهدفة، وضمان العدالة الاجتماعية، وتحقيق الإدماج الاقتصادي والسياسي.
إن الأحداث التي عرفتها البلاد خلال 27 و28 شتنبر تشكل لحظة مفصلية في هذا السياق، إذ لا يمكن التعامل معها كوقائع معزولة أو مجرد احتجاجات ظرفية، بل كـ مؤشر دال على وجود خلل في العلاقة التعاقدية بين الشباب والمؤسسات. فهذه الفئة، التي كان ينظر إليها لسنوات على أنها مغيبة عن المشهد الساسي والاجتماعي، خرجت إلى الشارع لتعبر عن مطالب اجتماعية تدين الإقصاء المؤسساتي والتهميش وتضع السياسات العمومية الموجهة للشباب في قفص الإتهام.
وإذا ما أردنا ربط هذه الأحداث بفكرة تقييم السياسات العمومية، فإن هذه اللحظة الاجتماعية كشفت عن ثلاث حقائق أساسية:
قصور في آليات الإدماج المؤسساتي: أدى غياب قنوات تواصل فعالة بين الشباب والمؤسسات إلى تهميش مطالب هذه الفة. ومع التطور التكنولوجي أصبح الفضاء الافتراضي ساحة واسعة للتعبير عن مواقف الشباب ومطالبهم. ورغم أن هذا الفضاء سار جزءا أساسيا في التفاعل السياسي والاجتماعي، إلا أن المؤسسات المعنية أخفقت في إدراكه كصوت حقيقي يجب الاستماع إليه. مما دفع بالشباب إلى تحويل الفضاء الافتراضي من مجرد منصة للتعبير إلى أداة احتجاجية ملموسة واداة لتعبة، حيث انتقلت مطالبهم من الشاشات إلى الشوارع، معبرة عن حجم التهميش في غياب الحوار وممارسة المؤسسات سياسة التجاهل.
ضعف الاستهداف الاجتماعي: إذ لم تنجح البرامج الاجتماعية في معالجة أولويات الشباب (التشغيل، التعليم ، الصحة) وهو ما يبرز فجوة بين التصور المؤسساتي للاحتياجات والواقع المعيش للفئات المستهدفة.
إشكالية الثقة والشرعية: الاحتجاجات تعكس تراجع رصيد الثقة في مؤسسات الدولة الوسيطة، مقابل استمرار الرهان على المؤسسة الملكية كفاعل ضامن للاستماع والاستجابة. هذا التباين يعكس أزمة عميقة في شرعية الفعل العمومي من داخل المؤسسات.
ورغم أن هذه الاحتجاجات اتسمت بطابع سلمي واضح، فإن ما رافقها من اعتقالات لبعض المشاركين أثار جدلا واسعا حول مدى توافق المقاربة الأمنية مع الحقوق الدستورية في حرية التعبير والتظاهر السلمي. هذه المفارقة تكشف عن توتر واضح بين منطق الضبط الأمني ومنطق الاستجابة الاجتماعية والسياسية. فعلى الرغم من أن حضور الأجهزة الأمنية يعتبر شرطا ضروريا لضمان الاستقرار، إلا أن التعامل الأمني مع القضايا ذات البعد الاجتماعي بهذا الشكل قد يؤدي إلى تأثيرات عكسية في ظل واقع انخفاض منسوب ثقة الشباب في المؤسسات، مما يزيد من شعورهم بالتهميش.
لذا، فإن معالجة هذه الاحتجاجات تتطلب تبني مقاربة تقوم على الحوار والإنصات، بدلا من تغليب سلطة الأمن، تجسيدا لالتزام الدولة بالدستور وإعادة بناء العلاقة الاجتماعية.
إن تحليل هذه المؤشرات يقود إلى خلاصة أساسية مفادها ان النجاح في المستقبل يقتضي إعادة بناء جسور الثقة عبر سياسات دامجة، شفافة، وقابلة للتقييم والمساءلة. فلا يكفي الإعلان عن البرامج، بل يجب ربطها بآليات فعالة للتتبع والمحاسبة، تمكن المواطنين، وخاصة الشباب، من الإحساس بأنهم شركاء حقيقيون في صياغة القرار العمومي لا مجرد أرقام انتخابية.
بعبارة أخرى، ما حدث لم يكن مجرد احتجاج بل كان آلية تقييم اجتماعية مباشرة للسياسات العمومية، ورسالة واضحة بأن شرعية الدولة واستقرارها يرتبطان بمدى قدرتها على الإنصات والتفاعل، لا فقط على مستوى الخطاب بل كذلك على مستوى الفعل الملموس.
اترك تعليقاً