وجهة نظر

كرة القدم كضحية

مارس الإنسان الرياضة منذ ظهوره على وجه الأرض. وكانت ألعاب القوى بشكلها البدائي الرياضة السباقة إلى الوجود: العدو(الكر و الفر)، القفز، السباحة، الرماية (الحجارة ثم الرماح…) وبعد ذلك الفروسية و المسايفة (أي بعد تطويع الفرس، واكتشاف الحديد). كانت ضرورات التأقلم مع الطبيعة والسعي إلى تطويعها والدفاع عن النفس؛ تفرض على الإنسان القيام بمجموعة من الحركات والأفعال الرياضية. وبنشوء التجمعات والدول ونشوب الصراعات حول النفوذ؛ طرحت على هذه الأخيرة ضرورة تكوين الجيوش. فكانت الرياضة جزءا من برنامجها. لقد مارس الإنسان القديم الرياضة بشكل لاواعي ولأغراض نفعية. 1 

لعبت الألعاب الأولمبية دورا كبيرا في المصالحة الوطنية بين مدن اليونان، وإخماد نار الأحقاد والحروب التي كانت تدور بينها. وقد أفلحت بتوالي السنوات في توحيد بلاد اليونان.2

و كان العرب القدامى يمارسون الرياضة بشكل طبيعي. و دعا الرسول صلى الله عليه وسلم الناس إلى مزاولتها في قوله:” علموا أبناءكم السباحة والرماية وركوب الخيل”.

لقد كانت الرياضة منذ البداية مرتبطة بالسياسة. و إذا كان اليونان قد وظفوها لخدمة أهداف نبيلة؛ ففي عصرنا انقلبت الأشياء رأسا على عقب إذ اتخذت الرياضة – و خاصة كرة القدم، باعتبارها الأكثر شعبية- أبعادا أخرى.

لقد ابتليت البشرية في عصرنا بظاهرة لافتة للنظر، تتمثل في الدور التخريبي لكرة القدم. وتأخذ الظاهرة أبعادا خطيرة، تهدد القيم الأخلاقية و الإنسانية. ليس العيب في كرة القدم كرياضة، وإنما في اتخاذها ذريعة لتحقيق أهداف لا صلة لها بالغايات السامية للرياضة ، ولخدمة أوليغارشية مالية يقودها الشره والجشع لتوظيف كل شيء لمصلحتها. وسنعرض في الفقرات التالية بعض مظاهر هذا:

التوظيف:
– نشر الاستيلاب والقبول بالدونية: ما معنى أن يخصص المرء جل وقته، ويشغل ذهنه بالمباريات الكروية، و يجعلها قضيته الأساس؟ وأن تكون حديث المقاهي ومنتديات التواصل الاجتماعي؟ بدل أن نصرف طاقاتنا وقدراتنا العقلية والنفسية في إيجاد حل للأزمات الفردية و الجماعية. بدل أن نقبل على الكتاب و المعرفة. لقد ظهرت في عصرنا تصنيفات جديدة للبشر حسب الفريق المفضل: فهذا (برصاوي) وذاك (ريالي). و تصل الحماسة أحيانا بمناصري الفريقين إلى درجة تبادل الشتائم، بل العراك. و أضحت أسماء اللاعبين أشهر من أسماء العلماء ورجالات التاريخ. لقد خضعت الشعوب – ولازالت تخضع – لغسل أدمغة ممنهج؛ وظفت فيه كل وسائل الدعاية و الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة. و كل ذلك من أجل صرفها عن القضايا الجوهرية. وزجها في التفاهة و البلاهة.

فذلك من ضمانات تأبيدها للسيطرة على “القطعان البشرية” التي أريد لها أن تكون مستهلكا فقط, و أن تنسى دورها في التاريخ.
تعمل العقول الجهنمية الساهرة على إدارة هذه اللعبة إلى زرع أفكار خطيرة تمس بكرامة الإنسان وتضرب في الصميم مكتسباته الحقوقية التي حققها عبر قرون من الدماء والدموع. فصرنا نسمع عن شراء” لاعب و”بيع” آخر في “سوق” الانتقالات. والمتتبعون يرددون ذلك بكل تلقائية. لعمري إنها لنخاسة جديدة في ثوب جديد. إن تحويل الإنسان إلى سلعة من الأهداف المقيتة للرأسمالية المتوحشة. وقد قطعت أشواطا بعيدة على درب مشروعها الخطير، أمام ذهول الجميع.

– التعصب والعنف: برزت ظاهرة العنف في الملاعب في البداية في أوروبا. و بالضبط في إنجلترا. ونتذكر هنا الجمهور الانجليزي المعروف ب”الهوليغانز” الذي ظهر في أواخر القرن التاسع عشر. ذلك الجمهور الذي كان يضم العصابات اللندنية. والمعروف بكون عناصره من حليقي الرؤوس، و من المدمنين على الكحول، وهواة العراك في الشوارع بالأسلحة البيضاء. و الذين كانوا ينطلقون كالثيران الإسبانية الهائجة – بعد كل مباراة – يعتدون على الأشخاص و يخربون كل ما يصادفونه أمامهم من ممتلكات،. لقد آل هذا الجمهور إلى حركة عنصرية تعادي كل من ليس إنجليزيا؛ في سياق بروز النازية الجديدة في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، في العقود الأخيرة.

يلاحظ الجميع حجم التخريب الذي تتعرض له الملاعب الكروية عبر العالم؛ ومظاهر العنف التي تراق فيه الدماء، وتزهق فيه الأرواح أحيانا. لقد غابت الروح الرياضية وابتعدت المباريات عن أن تكون متنفسا في نهاية الأسبوع. وفي المغرب ، أصبحت الملاعب مرتعا للمنحرفين الذين يتناولون الحبوب المهلوسة مما يؤدي إلى انفجار العدوانية. يلاحظ الجميع نشوب أحقاد بين “ألتراسات” تدعي تشجيع الأندية. فما أن يصل جمهور إلى المدينة التي ستنظم فيها المباراة حتى يجد الميليشيات المدججة بالأسلحة البيضاء في انتظاره. فيقع ما لا يحمد عقباه. ألا يعد هذا سقوطا في البهيمية؟ ألا تنذر هذه الممارسات بإشاعة قانون الغاب في المجتمع؟ ألا تعد الحبوب المهلوسة من وسائل تضبيع الشعوب؟ ألا يساهم انتشار العنف – الذي تذكيه سيكولوجية الجماعات الجانحة – في تقلص مطالب الشعوب إلى نشدان الأمن فقط، وتراجع المطالب الأخرى إلى الخلف ك:الرقي والتقدم ومجتمع المعرفة والإنسانية؟

– كرة القدم والقمار: تعددت أشكال “القمار الرياضي”: فمنه القمار التقليدي أو الرهان. و نشاهده في الكثير من المقاهي، حول من سيفوز بمباراة ما. وتتفاوت المبالغ المراهن بشأنها حسب الوضعية الاجتماعية للمتراهنين. لقد استفحل القمار في عصرنا وما له من آثار وخيمة على الفرد والمجتمع. فمن شأن هذه الممارسة أن تقدم للمجتمع أشخاصا عديمي المروءة، مفتقدين للفضيلة. فيكونون وبالا على المجتمع. فالمقامر كاذب وسارق وكسول وسلبي…

لكن الأخطر، في زمن الرأسمالية المتعفنة، ظهور شركات متخصصة في القمار الرياضي. ويستقطب هذا النوع من القمار، للأسف، شريحة واسعة من المجتمع. مغامرة بأموالها وبأقوات أبنائها. و ذلك على حساب احتياجاتها الأساسية إذا كان المقامر فقيرا، وعلى حساب الأعمال الاجتماعية الخيرة إذا كان غنيا. و في الخلاصة ضياع حقوق و تبذير أموال. و الأخطر من كل ذلك أن تحتال الشركات الأجنبية – ومنها الصهيونية- على الثروات الوطنية للشعوب. تنهج تلك الشركات أسلوب الإغراء وإسالة اللعاب من خلال إعلانها عن “الفائزين” بالدولارات العفنة، وأحيانا على القنوات الرسمية. وتلك هي الطامة الكبرى. و ما يقال عن “القمار الكروي” ينسحب على سائر أنواع القمار. إن الترخيص لهذه الشركات لهو تشجيع صريح على نهب الثروة الوطنية، وتهريبها إلى الخارج. و تدمير المجتمع، وانبطاح أمام انتهاك السيادة الوطنية.

– كرة القدم و الدعاية الإشهارية: جعلت الشركات جوانب الملاعب مجالا لعرض بضائعها. و في وصلاتها الإشهارية توظف اللاعبين المشاهير من أجل ترويجها، مستغلة تأثير هؤلاء على المعجبين بهم. وتعزف الدعاية الإشهارية على الأوتار الحساسة لشرائح واسعة من الشعوب، التي أريد لها أن تكون مستهلكة محشوة الذهن بالوعي الزائف، وكثير من البلادة.(2)

أما إشهار المباريات، فهو يقدم هذه الأخيرة كما لو أنها حرب حقيقية. عازفا على أوتار غريزة العنف.(ميلان يأخذ بالثأر من روما في قلعة سانسيرو)،(الريال يسحق غرناطة في عقر داره). و على الشاشة يتم عرض صور لنجوم الفرق، يظهرون فيها كما لو أنهم أبطال التحرير. يسوق الإعلام الأوهام. ويساهم في إذكاء روح التعصب والعنف. لقد أصبحت الفرجة الكروية صناعة تباع فيها بطائق القنوات الرياضية، وتعرض خلالها منتوجات كبريات الشركات العالمية.

اتخذت كرة القدم أبعادا غير رياضية في سياق العولمة الرأسمالية، فوظفتها من أجل إرضاء شراهتها التي لا تحدها حدود. و قد نجحت إلى حد كبير في مخططاتها التي وظفت من أجلها كل الوسائل. فالغاية تبرر الوسيلة. إن الاهتمام المفيد بالرياضة يكمن في ممارستها؛ حفاظا على سلامة الأبدان وقوتها و نضارتها. بدل الانزواء في ركن قصي في مقهى واستنشاق الهواء الملوث. وتبذير وقت ثمين جريا وراء عالم وهمي. وصدق الحكيم الذي قال:” العقل السليم في الجسم السليم”.

هوامش:

( الرياضة امتداد للحرب… لكن بوسائل أخرى. د. منصف اليازغي.) WWW.BOOK 1 – -SPORT. MA

2– للاطلاع أكثر على كيفية صناعة الإشهار،وكيفية تأثيره،يمكن الرجوع إلى أعداد مجلة علامات:7 / 1997 و 18/ 2002 و27 /2007(التي تصدر بمكناس بالمغرب).و الكتاب الجماعي ” استراتيجيات التواصل الإشهاري”. دار الحوار.سوريا.2010. من إعداد الدكتور سعيد بنكراد وبمشاركة مجموعة من الأساتذة.