وجهة نظر

الأمة الإسلامية من الفاعل إلى المفعول به

يشغل موضوع الأمة الإسلامية بال كل من يحمل هم الرسالة، فعندما يرتبط الأمر بالإسلام يتجند له كل من له ذرة إيمان و غيرة على هذا الدين الذي جاء للعالمين ومهيمنا على كل الأديان، يقول الله عزوجل: (إن الدين عند الله الإسلام)، فإن عدنا لقراءة التاريخ الإسلامي وجدنا أن الأمة الإسلامية قادت الأمم الأخرى، وأن المسلمين حققوا الشهود الحضاري، لكن الفهم السليم للدين تحقق مع جيل يستوعب أن المسلم عندما يبتغي العزة في غير دين الله يعيش حياة الذل والهوان، فالأمة المحمدية كانت في بدايتها تُمارس الفعل الحضاري، وكان الفرد المسلم في الأمة يعتبر فاعلاً مؤثراً، بفهمه الجيد للنص ولم يكن في حاجة إلى وساطة لفهم النص، لكن مع تعاقب أجيال النكوص و الردة الحضارية عشنا زمن الجمود الفكري، والتبعية الغربية في كل شيء، وأصبحت الأمة تعيش حالة المفعول به، ولا نملك مناعة فكرية تجعل منا نعيش الاستقلالية في اتخاذ القرار، حتى هجم علينا العدو داخل بيوتنا. لقد عاش الجيل الأول في فترة لا يمتلكون من الوسائل العصرية ما نملكه نحن، فاستطاعوا أن يحققوا طفرة، ويعيشوا الشهود الحضاري، فالأمر يحتم علينا أن نطرح أكثر من سؤال في معالجة هذه الإشكالات التى تؤرق فكر كل من يحمل هم الأمة، لماذا تقدم الغرب وتأخرنا؟ لماذا انتقلنا من ممارسة الفعل الحضاري، إلى زمن التقليد الحضاري الغربي في سلبياته، كيف ننقل الأمة من حالة اللاشعور إلى حالة الإدراك والوعي؟

1- الأمة الإسلامية وقواعد البناء:

فحتى تحقق الأمة الإسلامية الفاعلية المؤثرة في الأمم، لابد من إدراك الدعائم أو القواعد التي يتوقف عليها النهوض الحضاري للأمم، أما أن نخبط خبط عشواء فسوف نعيش حالة الإحتضار والجمود الحضاري، فأي بناء لا يقوم إلا إذا أعطينا الأهمية الكاملة لأسسه وقواعده، فكذلك الأمة لابد من الاعتناء بأسسها، فإنها جزء لا يتجزأ من ماهية الأمة نفسها وعناصر بنائها ماضيا وحاضرا، واستمرارها في المستقبل، وأذكر من هذه القواعد:

أ- البناء الفكري والثقافي:

ويمثل الجانب الفكري والثقافي للأمة الإسلامية القاعدة الأساسية لتحديد الهوية، فمنه يمكن أن نتحدث عن المرجعية وضوابط الوحدة أو الوعي الجمعي، كما يسميه الدكتور عصام البشير، فمن خلال القاعدة الفكرية والثقافية، يمكن أن نتكلم عن بوادر الحضارة الإسلامية، بالإعتماد على المصادر الفكرية والثقافية الإسلامية الأصيلة، التي تحدد البناء العقائدي للأمة، وقوانين الشريعة، ومنظومة القيم والأخلاق والسلوك، وبالرجوع إلى القرآن الكريم نجد قول الله عز وجل: (وَإن هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) (المومنون:52)، يؤكد على وحدة الأمة ووحدة المعبود (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ)، وإذا ما عدنا إلى السنة النبوية الشريفة، نجدها صلبة البناء التأسيسي لمفهوم الأمة الإسلامية، فقد قامت الدعوة في أوساط قريش بواسطة مجموعة من الأفراد، الذين شكلوا النواة الأولى للعمل الفكري والثقافي في مكة، فعندما تكون الحصانة الفكرية والثقافية للأمة فلا يمكن أن نعرف الاستلاب الفكري والتبعية الثقافية، كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما بَدَّلُوا مرجعيتهم الفكرية القائمة على وحدة المعبود، والولاء التام غير الناقص للرسالة المحمدية، ومن هنا كانت اللّبنة الأولى للأمة الإسلامية، فقد جاء في كتب السيرة : “هذا كتاب من محمد النبي بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة من دون الناس”، فأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم و أفعاله في الواقع تعد من أهم المراجع الفكرية للأمة الإسلامية، لذلك لابد من التأصيل لفكرنا و ثقافتنا المعاصرة من خلال هذه المصادر لكي نحقق الأمة الفاعلة وليس الأمة المفعول بها من قبل الآخر.

ب-البناء العلمي والاقتصادي:

حتى لا يظن البعض أن النظام الاقتصادي الإسلامي نظام متخلف، فقد حقق طفرة إقتصادية مهمة في وقته، وذلك باتباع الضوابط الشرعية التى جاء بها الإسلام في تنظيم الحياة الاقتصادية، ولهذا فالرابط العقدي له دور مهم في تقدم الأمة، فلا نفصل الاقتصاد والاكتشافات العلمية عن الدين، وكذلك السياسة، وكل الجوانب المتعلقة بالحياة، فماخلقت الأمة إلا لتحقيق مقصد العبادة والاستخلاف في الأرض، وهنا يمكن الحديث عن إسهامات المتقدمين من المسلمين في إغناء الحضارات الأخرى، في الطب، في الاقتصاد، وفي التطور التقني والتكنولوجي، فهذا يدل على أن الحضارة الإسلامية ليست حضارة بدو ورعي وفلاحة فقط، وأن اقتصادها قائم على فلسفة الوقف فقط، فعندما جاء الإسلام وجد مجموعة من الظواهر الاقتصادية المرضية، فتصدى لها مراعيا في ذلك سُنن التدرج في التشريع، فحرم الاحتكار والربا، وشجع على استثمار المال، واعتبر أن المال مال الله، فأوجب الزكاة فيه، وحث على الصدقة ومساعدة الفقراء والمساكين، ومن يدرس الحقبتين العمريتين سيجد الازدهار الاقتصادي القائم على أساس العدل بين أفراد الأمة الذي تحقق في أعلى مستوياته، فارتباطا بتاريخنا الاقتصادي لابد من التأكيد على مايلي حتى نحقق الاكتفاء الاقتصادي للأمة:

– عدم المفاصلة بين الأمور الدنيوية في علاقتها بالعقيدة، بمعنى أن حياة الانسان كلها لله عز وجل، فلا رقي اقتصادي بوجود مؤسسات ربوية، فهذا إعلان للحرب مع الخالق تعالى، والخاسر فيها هو الانسان.
– تشجيع شباب الأمة على ثقافة الإبداع والاستثمار، فهناك نصوص شرعية تزكي فينا هذه الروح، من قبيل (علموا أولادكم التجارة ولا تعلموهم الإجارة).
– الاهتمام بالجانب العلمي في مختلف جامعات الأمة، وربط الجامعة والبحث العلمي بالواقع الذي نعيشه.
-أن يكون تعامل الأمة مع الآخر بمنطق المخالطة الإيجابية واحترام سنن التدافع، لا بمنطق التقليد والتبعية.

فالبناء الاقتصادي للأمة الإسلامية مرتبط بقاعدة الإنفاق في سبيل الله وربط ذلك بالجزاء الأخروي حتى لو كان من صميم الواجب، فالمجتمع الإسلامي قائم على فلسفة الإنفاق، والفرد المسلم وغير المسلم ممن يعيش في مجتمع المسلمين هو من يقطف في النهاية ثمرة هذه المبادئ الاجتماعية التي توجه الفعل المالي والسلوك الاقتصادي في الإسلام.

ج- البناء الاجتماعي التراحمي:

إن البناء الاجتماعي في الإسلام قائم على قاعدة التراحم، فإذا ما عدنا إلى النصوص الشرعية، نجد فيها هذا النّفَس بغزارة، فالشريعة هي عدل كلها رحمة كلها كما قال أهل المقاصد من العلماء، فالعلاقات الإنسانية يجب أن تؤسس على هذه القاعدة، فغياب التراحم في الأرض هو الذي جعل منا نسمع في كل يوم سقوط أعداد كثيرة من القتلى والجرحى في صفوف الأبرياء، مع مرارة من الأسى والأسف نجد أن هذا التطاحن والاقتتال في صفوف المسلمين فيما بينهم، وما يقع في سوريا وليبيا عنا ببعيد، فالفلسفة الاجتماعية في الإسلام قائمة على مبدأ التآخي والتراحم والتعاون، فالأمة الإسلامية عندما كانت في فترة الفاعل أو الفاعلية، كان يحسب لها ألف حساب، آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، شيد لهم مسجد قباء وفيه كان اجتماعهم، ومن ثم فإن فرص بقاء الصلة بين أفراد المجتمع الإسلامي أكبر من أي فرص أخرى في ظل قيم مخالفة، ذلك أن طبيعة الالتزام الديني في الإسلام نفسه تفرض دوام اللقاء مما يسمح بتوطيد الأواصر، وهذا يحصل في الصلوات الخمس في المسجد، واللقاء الأسبوعي في صلاة الجمعة، واللقاء السنوي في صلاة العيد، ثم اللقاء العالمي في الحج.

لقد نظم الإسلام الحياة العامة والخاصة، حيث أطّر الحياة الزوجية بمجموعة من القوانين الشرعية، يقول الله تعالى في سورة الروم: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزوجا لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة.)، فمن أهم مشاكل الأمة عدم احترام السنن التراتبية في إقامة الدين على مستوى الأمة، فأولا إقامة الدين على مستوى الأسرة، وممارسة الإصلاح الذاتي يقول الله تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، فصلاح الأسرة في صلاح الأمة، لكن إذا ما تأملنا في واقع أسرنا اليوم نجدها تعج بأمراض خطيرة، تؤثر على المجتمع والأمة بشكل عام.

إن الإنتماء الحضاري للأمة الإسلامية يقصد به: الأمة الفاعلة المؤثرة في الواقع فكريا، واقتصاديا، واجتماعيا، وليس الأمة الخانعة المستقبلة لكل ما يأتي من الغرب دون قيد أوشرط (حاطبة ليل)، جاء في كتاب الأمة القطب لمنى عبد المنعم أبو الفضل: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خلف وراءه عند وفاته (أمة) قبل أن يخلف إماما، وأنه لو لم تكن الأمة لما وجد من يؤمّها. وبالتالي فإن وجود الإمام وجود منسوب أو مشتق – والأمة أو الجماعة تصير هي الأصل).

2- الأمة الإسلامية: الخصائص ومقترحات النهوض:

أ- خصائص الأمة الإسلامية:

إن أهم ما يميز الأمة الإسلامية عن غيرها الخصائص التالية كما ذكرها الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله في كتابه شمول الإسلام حيث قال: ( أبرز مايميّز هذه الأمة عن غيرها من الأمم أوصاف ذكرها القرآن:

الأول – الربانية: ربانية المصدر، وربانية الواجهة. فهي أمة أنشأها وحي الله تعالى، وتعهدتها تعاليمه وأحكامه، حتى اكتمل لها دينها، وتمت به نعمة الله عليها كما قال الله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) سورة المائدة الآية 3 …

الثاني – الوسطية: التي تؤهل الأمة للشهادة على الناس، وتبوؤها مكان الأستاذية للبشرية، وفيها جاءت الآية الكريمة : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) البقرة الآية 143.

وهي وسطية شاملة جامعة: وسطية في الاعتقاد والتصور، ووسطية في الشعائر والتعبد، ووسطية في الأخلاق والسلوك، ووسطية في النظم والتشريع، ووسطية في الأفكار والمشاعر.

الثالث – الدعوة: فهي أمة دعوة ورسالة، وليست أمة منكفئة على نفسها، تحتكر الحق والخير والهداية لذاتها، ولا تعمل على نشرها بين الناس. بل الدعوة فريضة عليها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الإيمان بالله أساس تفضيلها على كل الأمم، كما قال الله تعالى: ( كُنتُم خير أمة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) سورة آلِ عمران الآية 143.

الرابع – الوحدة: فالأمة التي يريدها الإسلام أمة واحدة، وإن تكونت من عروق وألوان وطبقات، فقد صهرها الإسلام جميعا في بوتقته، وأذاب الفوارق بينها، وربطها بالعروة الوثقى لا انفصام لها، يقول الله عزوجل: (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) سورة الأنبياء الآية 92.

ب- مقترحات من أجل النهوض:

لو بحثنا في رفوف الخزانات لوجدنا كمّا هائلا من المؤلفات تكلمت عن أزمة الأمة في مختلف المجالات، فثمة فكرة أساسية يجب أن أشير إليها في هذا الموضوع المهم الذي يلامس قضايا هذه الأمة المفعول بها من طرف الآخر، حتى أصبح دم المسلم رخيصاً، وكرامته تهان، وأضحت الأقطار الإسلامية بؤرا للعنف والإرهاب، كما هو الحال في سوريا، والعراق، وليبيا، وغير ذلك من دول العالم العربي والإسلامي، فأمام هذا الوضع المزري يتعين على كل من يحمل هم هذه الأمة المكلومة، أن يتجند لخدمة قضاياها، كل منا ينطلق من موقعه لأن الخطب جلل، والمسؤولية ملقاة على عاتق الجميع، كما يجب على قادة الأمة تفعيل ثقافة الحوار والتواصل، ونبذ كل الخلافات السياسية المجانية، لأنه لا يعقل أن نتكلم عن الأمة الفاعلة وهي تحتضن الفكر الإقصائي الذي يبرر قتل المخالف، إننا مطالبون معشر الأحبة أن نستأصل من فكرنا وقلوبنا، كل أسباب الفرقة والعنف، حتى نتمكن على المستوى الواقعي أن نبني الأمة الفاعلة، وفي هذا السياق أود أن أؤكد على النقط التالية لبلوغ الهدف المنشود:

– حان الوقت لنعي مفهوم الوحدة أو الأمة الواحدة كما يسميها الدكتور عصام البشير، وأن نعزز كل أسباب التكثل لخدمة الأمة، فإذا حددنا من نحن سَهُل علينا أن نعرف عدونا، ونصيغ ذاتنا ونحدد الأولويات، نعمل على إخراج المشروع الإسلامي الذي عنوانه: (الأمة الفاعلة)، فكلما كانت الوحدة المتكاملة المبنية على فلسفة التعاون التي جاء بها الإسلام كلما تحقق فينا مفهوم الأمة.

– سياسية العنف والقوة ليست حلاً لأخذ الحقوق ولقمع الظلم، فالعنف لايعالج بالعنف، فلاريب أن العنف أصبح يهدد العالم بأسره، ويخرق التداول السلمي للأفكار، ويهدد الديمقراطية، لهذا حان الوقت أن نعيد بناء الإنسان الفاعل المؤثر إيجابا وليس سلباً.
– التحصين الفكري والاستقلال الاقتصادي للأمة ضد كل المخاطر الخارجية والداخلية التي تهددها.

إن مفهوم الأمة الفاعلة، يتطلب منا جميعا تنمية الاستعدادات الثقافية والفكرية قصد معالجة الظواهر المجتمعية، واستيعاب جميع أفراد الأمة بمختلف تخصصاتهم ومستوياتهم، وصقلها والرفع من قواهم كما يرفع الفاعل بالضم، فَلِنَضمّ شباب هذه الأمة لمستقبل مشرق وخير مثمر، ونقول وداعاً لأمة مفعول بها، منصوبة بيد العدو الذي يزرع الفتن ويجعلها تعيش المحن.

وفي الختام أسأل الله عزوجل أن أكون قد وفقت في نقاش هذا الموضوع، لأن الهدف والقصد هو أن نحقق الحلم وهو (الأمة الشاهدة ) كما جاء ذلك في القران الكريم.