وجهة نظر

القيادي الاتحادي بوبكري يكتب عن أزمة اليسار

لا توجد في بلادنا أحزاب فعلية وفعالة، لأنها لا تمتلك مشروعا، ولم تستطع التواجد في المجتمع والتوسع فيه، فصار ضعفها الفكري والسياسي والتنظيمي عائقا أساسا في وجه تحديث المجتمع ودمقرطته… كما أن مجتمعنا ما يزال عاجزا إفراز حزب يساري كبير، إذ يتكون “اليسار” عندنا الآن من مجموعات مُشتَّتة لا يجمعها رابط. ويعود ذلك أصلا إلى صراعاتها الداخلية حول مواقع السلطة داخل الحزب، ما يعني أن عقليتها تتحكم فيها ثقافة تقليدية تسلُّطية تعود إلى عهود غابرة لا تعترف بالمأسسة، وأنها لا تختلف فكريا عن المؤسسات التقليدية للمجتمع التي تدَّعي السعي لدمقرطتها… أضف إلى ذلك أن العالم يتغير، ويُفرزُ أوضاعا جديدة، ولكن “اليسار” عندنا، كباقي الأحزاب، لم يطرح لحدِّ الساعة أي رؤية جديدة تواكب هذه التحولات وتنسجم مع روح العصر وآلياته بخلاف نظيره في مجموعة من البلدان… فاليسار في اليونان، على سبيل المثال، استعاد عافيته وقوته، وبدأ يتفاعل مع محيطه، ويجني ثمار هذا التفاعل الإيجابي، إذ دخل الانتخابات، فحصل على الأغلبية. واشتراكيو فرنسا وإسبانيا، وغيرهما من البلدان الديمقراطية، استفادوا من تاريخهم الكبير في التعامل مع الحاضر ومستجداته. أما يسار الشرق الأوسط والمغرب، فقد فشل في طرح برنامج جديد يتناسب مع التحولات المحلية والعالمية، إذ عرف العالم تحولات جديدة، نجمت عنها أوضاع جديدة، أصبحت الرأسمالية المتوحشة فيها هي السائدة عالميا، وهي لا تذخر جُهدا في سعيها للقضاء المبرم على “الدولة الوطنية” في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا…

لذلك، يلاحظ اليوم أن “فصائل اليسار” في المغرب تشهد حالة من الضعف الفكري والانكماش التنظيمي والتراجع الشديد في المجتمع. وتشكل التجارب الانتخابية في بلادنا دليلاً ساطعاً على حجم الأزمة التاريخية العميقة التي تراكمت في بنية “أحزاب “اليسار” على كافة المستويات: الفكرية، والسياسية، والتنظيمية، وما إلى ذلك، مما أدى إلى غياب الوعي بطبيعة التطور التاريخي والاقتصادي والاجتماعي وأنماطه المتداخلة في بلادنا، فنتج عن ذلك عجز “فصائل اليسار” عن الاستجابة لقضايا الشعب المغربي وهمومه ومعاناته… وفي هذا الإطار، ليس من باب الصدفة أن يسود هذا العجز الكبير عن التعاطي مع الوعي التلقائي للمجتمع وشبابه الذي تجاوزت طموحاته واندفاعه قدرات “اليسار” و”الأحزاب” الأخرى برمتها، ذلك أن القاعدة الاجتماعية لأحزاب “اليسار”، كانت – وما تزال- تتكون أساسا في غالبيتها من الفئات المتوسطة وبعض المثقفين الذين لم يستطع معظمهم التخلص ثقافيا من انتمائه الطبقي أو القَبَلِي أو الطائفي… كما أن تبنِّي هذه “الأحزاب” للفكر اليساري العقلاني، عموماً، يبقى شكلياً ومظهرياً هشاً قابلاً للاختراق الإقطاعي والليبرالي، والأصولي… ويعود ذلك إلى فشل “فصائل اليسار” في مراكمة الوعي بالواقع المعاش من جهة، وتعميق الفكر العقلاني في صفوف “أحزابها” وأطرها، من جهة أخرى. وهذا ما أدى إلى الانحسار المعرفي، وتفكك نواة الهوية الفكرية اليسارية، وسيادة أشكال متنوعة مما يمكن تسميته بالليبرالية الرثَّة وما رافقها من مظاهر الانقلاب القِيمِي والفوضى والارتباك، والجمود والانشقاق، الأمر الذي عمَّق رخاوة تنظيمات “فصائل اليسار”، ومسخ هويتها الفكرية، وشلَّ فعاليتها، فتخلى عنها الكثيرون، وهي عوامل أفضت إلى تراكم الأزمات الداخلية وتفاقمها، ما أدى إلى مزيد من إضعاف الدور الاجتماعي والديمقراطي لليسار… وبالتالي لم تستطع هذه “الأحزاب” تطبيق مضامين فكر اليسار وآلياته في أوساط أغلبية فئات المجتمع، رغم ما ترفعه من شعارات وما تدَّعي الدفاع عنه من مبادئ وتوجٌّهات…

لقد صار معلوما لدى المتتبعين والمهتمين أن السلطة والمصالح والطموحات الشخصية… ما تزال تحكم تشكيل “الأحزاب” في مجتمعنا، ما يعني سيادة فكر عقيم بدون أفق… ويبدو لي أن المشكلة لا ترجع إلى هذه الأمور فقط،، بل هناك مسألة أخرى مهمة أيضا تتمثل في أن الحزب السياسي مؤسسة تٌبنى على نحو يفضي إلى وُجود هيئات قيادية ديمقراطية تتولى المهام الرئيسية داخله وخارجه. لكن “الأحزاب” عندنا مازالت هشَّة وغير مؤثرة بدليل أنها لا تستطيعُ اجتذاب الشباب وتأطيرهم، وأنَّ الطابع الشخصي يغلب عليها أكثر من الطابع المؤسسي، ما يؤكد أن زعاماتها مأخوذة بحب التسلط ومراكمة الثروة…

لذلك كان ضروريا أن يتحول اليسار فكريا ويتقدم ببرنامج سياسي يعالج واقع مشاكل المجتمع المغربي بلغة تناسب المواطنين. لكن، ولأسباب متعدِّدَة، فقد تحوَّل هذا “اليسار” إلى مجرد هياكل صغيرة لا تتفاعل مع قضايا المجتمع، ولا تمتلك ما تقدِّمه له، ما أدى إلى عجزه عن التأطير والفعل والتأثير، حيث ضربه الجفاف وانعدمت لديه القدرة على استعمال الخيال والإنتاج الفكري والسياسي والتنظيمي، فلم يعد يثير اهتمام المثقفين ولا الأطر ولا النساء ولا الشباب…

تبعا لذلك، يظل الاهتمام بقضية إخفاق”أحزاب اليسار” قضية مطروحة لمزيد من البحث والتفكيك من أجل إعادة البناء، عبر إزاحة التراكمات السلبية المتمثّلة في حالة الترهل والجمود والتراجع السياسي والفكري والتنظيمي التي أفرزت مجموعة كبيرة من مظاهر الفشل التي أدت إلى تفكك اليسار وانفضاض المغاربة من حوله وعزوفهم عن العمل السياسي…

وخلاصة القول، يبدو أن الأحزاب عندنا لا يمكن أن تستمر في الوجود بدون قدرة على الإنتاج الفكري والثقافي الذي يؤهلها للتأثير والفعل في الواقع وتحويله… لذلك، إذا استمر حال الأحزاب في المغرب، ومن ضمنها “اليسار”، على ما هو عليه، فقد تتلاشى وتنحل بعد انصرام عقد من الزمن من الآن، ولاسيما الأحزاب القائمة على علاقات عائلية وقَبَلِية وطائفية، وقد تظهر أحزاب أخرى أو “تكتلات” جديدة… وفي غضون ذلك، يبقى الواقع هو أننا الآن أمام “أحزاب” هشَّة وضعيفة غير مستقلة وغير قادرة على التغيٌّر والتغيير، ما يعني أن وجودها كعدمه…