وجهة نظر

الاستثمار في الشعير والحجر، والاستثمار في غرس الشعر في القلوب

المتتبع للشأن الوطني العام، يلاحظ أن جل السياسيين و الإعلاميين و الصحفيين و المثقفين قد خانوا الذوق العام للمغاربة، و ربما ذلك راجع بالأساس لفقدانهم لذلك الحس الشعري و النقدي. فأمة بدون شعر جميل تبقى أمة ميتة.

من يستثمر في الشعير و الحجر و يهمل الاستثمار في غرس الشعر الجميل في قلوب البشر، ربما نظره قصير و لا يعرف كيف يبني الإنسان و يطور إنسانيته. يحكى أن ” نيرون” بعد حريق روما الشهير، وقف على شرفة القصر بين بعض أفراد حاشيته يتمتع بمشاهدة الحرائق و النيران و هي تلتهب روما. ثم التفت فجأة إلى جواره، فوجد الفيلسوف ” ليموزيس” يبكي بكاء مرا… فسأله ” نيرون” ساخرا: أتبكي حزنا على روما يا” ليموزيس”؟ فأجابه الأخير : ” أبدا يا ” نيرون”، لست أبكي حزنا على روما، فروما ستجد يوما من يعيد بناءها و يشيد مبانيها، و ربما بشكل أجمل…ولكن الذي يؤلمني و يحزنني و يبكيني أني علمت أنك فرضت شعرا رديئا…لقنته للناس، وفرضته عليهم، فقتلت بهذا الشعر الرديء المعاني فيهم. و عندما تقتل المعاني في شعب، هيهات أن تجد من يعيدها إلى النفوس و هيهات أن تجد من يعيد غرسها في الصدور.

فالإنسان “الحيوان” قد يتجرد من كل مشاعره و أحاسيسه، و يعمل و يشقى طول حياته، و قد يستعمل كل الوسائل للوصول إلى غاياته و أهدافه التي يمكن أن تخلق الثروة و تنتجها، و بالتالي تساهم في تحريك العجلة الاقتصادية للبلاد. لكن غالبا ما تسبب هذه الثروة البؤس الاجتماعي و النفسي للبعض، لأنها تكون مرتبطة بالجشع و الاستغلال و استعباد الناس الآخرين. و كم من عامل أو أجير يشغل منصبا عند هؤلاء الذين ينتجون الثروة، لكن لا يستوفون حقوقه. و قد يرجع ذلك بالأساس إلى تصحر نفوسهم و تحجر قلوبهم. أما الإنسان “الإنسان” فهو دائما ما يكون شاعرا ويحلم بعوالم مثالية تشرق فيها شمس الأمل و يقف فيها الناس متساوون أمام القانون بدون حيثيات و لا خلفيات.

من يريد أن يحارب التطرف، فعليه أن يشجع الناس على تعلم الشعر الجميل و نظمه. فالمتطرفون هم نتاج لبرامج دراسية مكثفة فارغة لم تخاطب فيهم الجانب العاطفي و الوجداني و لم تطورهما. بل عملت هذه البرامج على شحنهم بمواد جاهزة فقط للحفظ دون إعمال للعقل الذي قتل فيهم الإجتهتا د الفكري و روح الإبداع. فالشعر يدعو و يحث على حب الحياة و احترامها و يسعى إلى التجاوب مع “الأخر” حتى لو كان يبدو مختلفا في شيء من الدين أو الجنس أو اللون. من يريد أن يضع حدا للعنف ضد النساء، فعليه أن يربي الرجال على الشعر الجميل الذي سيمنعهم من التحرش بهن في الطرقات. و إذا ما وقع أحدهم في حب إحداهن، فسيلجأ إلى الشعر لينفس عن مشاعره. و حتى إذا ما أراد أن يتحدث إليها في الشارع أو في مكان ما ، فإنه سيكون رومانسيا و ليس ” مشرملا”. ولن يصعد إلىى” عامود إتصالات الهاتف”،في مدينة سياحية، في يوم يسمى ب”عيد الحب عند الغرب” بعد أن ” خدر وقرقب ” نفسه كما فعل ” روميو او فلنتينو” مراكش الذي جعلنا أضحوكة العالم بتساؤلهم: ” أهكذا يحتفلون المغاربة ب”سانت فلنتين؟”. من يريد تخليق الحياة العامة وتهذيبها، فعليه أن يجعل من الشعر الجميل خبز الناس اليومي. فالناس لا تحيى بالخبز وحده. الناس تحيى و تسمو بالمبادئ و الأخلاق التي يعالجها الشعر الجميل و يشجع عليها. وكم كان القاضي المعزول، الدكتور الهيني، شاعريا في قوله: ” لن نموت جوعا أو عطشا لأن شبعنا في أفكارنا و مبادئنا لا في بطوننا”.

“ومنكم من يمشي على بطنه”… فالسياسي يميل إلى “الملهوطين” من الذين يتاجرون بكل شيء في سبيل ” المرقة و الورقة”. و يفضل مثل هؤلاء على غيرهم من البشر لأنهم يذعنون له بكل سهولة، و هو لا يصاحب من يعارضه و ينتقده و إلا سيجوعه حتى يخضعه وتكون دائرته مجموعة من الخاضعين و الخادمين. فإذا كان خطاب السياسي، اليوم، فارغا فمرده إلى أن السياسي في حقيقته لا يبتغي التغيير و تحسين أوضاع الناس. فالسياسي هو “مصلحاتي و براغماتي” بالدرجة الأولى، و لن يرشح نفسه في الانتخابات من أجل سواد عيون الناس. و لكن من أجل السلطة و تكديس الأموال التي يستثمرها في الشعير و الحجر و ينسى هموم البشر. السياسي لا يمكن أن يكون ناجحا إلا إذا نزل عند الناس وشعر بمشاكلهم و أحس بمصائبهم التي قد تؤرقه و تجعله يسعى جاهدا لإيجاد السبل و الطرق الكفيلة لتخفيف الضغط عنهم و العمل على إسعادهم في حياتهم. فالسياسي ليس ضميرا للأمة. مصلحة السياسي الذاتية تطغى على كل شيء و تجعله لا يتهاون في الدفاع عتها مهما كلفه الأمر .

ونتيجة لذلك، فهو يقبح المشهد العام و يجعل نفسه موضع سخرية كلما بدأ بالحديث، وخصوصا إذا ما كان خطابه متناثرا و لا ينبي على أسس موضوعية تحرك العقل و القلب. الممثل العام لسوريا، في الأمم المتحدة، بشار الجعفري حير ساسة و قادة الدول الكبار و غيرهم كلما قدم مداخلة و صقلها بالشعر الذي أضحك و أبكى ممثلين الدول الأعضاء. و بشاعريته و فكره، دأب الممثل العام لسوريا على المرافعة عن سوريا- رغم مؤاخذتنا على النظام الحاكم- و كثيرا ما كان يستشهد بأشعار” نزار قباني” و يدغدغ مشاعر المنتظم الدولي الذي تعاطف و اصطف معه بعد ذلك. نحن نريد أن ندافع عن أرضنا و عن صحرائنا و ليس لدينا شعراء يتغنون بها على أنها طرف من جسدنا المغربيظ!!! فحياة السياسي قصيرة و ينسى بموته، أما الشاعر فيبقى حي لأن أشعاره الجميلة تعطيه طابع الخلود. فالشاعر الحقيقي هو ضمير الأمة و معلمها.

إننا نحاول أن نسلط الضوء على قيمة الشعر الجميل و دوره في حياة الناس. فالخطاب الديني، لبعضهم، أثبت فشله بحكم أنه لا يتأسس عل الرحمة و الجمال في الدعوة إلى الله و تحبيب الناس إليه بالاتصال به و التقرب إليه. بعض رجال الدين- غفر لنا و لهم الله- تواطئوا وأصبحوا ” كهنة” يتاجرون بالدين ويستغلون نفوذهم لتغييب الناس عن معانيه الجميلة ومقاصده النبيلة. فرجل الدين يمكن أن يصلح و يمكن أن يعطي إذا تجاوز تلك النظرة الضيقة في إدراكه و فهمه للدين و أصبح يرتشف من معين الأنس و الحب الذي يفرض عليه أن يتخلق و يتأدب مع الخلق- فالخلق عيال الله.

و غالبا، الأمة التي يوجد بها شعراء كبار، يوجد بها سياسيين كبار. فالسياسي يحتاج إلى الشاعر لكي ينوره ويثقفه و يشعره بأمراض المجتمع و هموم الناس. فعندما تتقاطع المصالح، لا احد يستطيع الجهر بشيء في وجه الأمير أو السلطان و لا أحد يستطيع أن يقول الحق. لكن الشاعر الحالم قد يقول كما قال أحدهم:

لو أحد يمنحني الأمان.
لو كنت أستطيع أن أقابل السلطان،
لقلت له:
يا سيدي السلطان،
كلابك المفترسة مزقت ردائي،
و مخبروك دائما ورائي،
عيونهم ورائي،
أنوفهم ورائي،
أقدامهم ورائي،
يستوجبون زوجتي،
ويكتبون عندهم أسماء أصدقائي.
يا حضرة السلطان،
يا سيدي السلطان،
إذا خسرت الحرب، فلا غرابة لأنك انفصلت عن قضية الإنسان.