مجتمع

الإدارة والمواطن في المغرب.. الثقة المفقودة

ا

الإدارة بلغة الأكاديميين هي “الاستخدام الفعال والكفء للموارد البشرية والمادية والمالية والمعلومات والأفكار والوقت من خلال العمليات الإدارية المتمثلة في التخطيط، والتنظيم والتوجيه والرقابة بغرض تحقيق الأهداف”، وبلغة العوام هي عنوان “التبهديل” و”التكرفيس” و “الحكرة”، نظرا لما تشكله الإدارة من مرتع هام للفساد من محسوبية وزبونية. وتجعل كرامة المرء أمام رحمة موظفين قد لا يستحقون حتى السلام لو قدر لك وأن رأيتهم في الشارع، إلا ما رحم ربي، وقليل ما هم.

غير أن الإدارة ورغم مجموعة من التقارير الدولية والوطنية، التي تثبت أنها من بين أهم بؤر الفساد في الدولة المغربية، تحاول بين الفينة والأخرى، أن تقوم بإصلاحات جزئية وتدريجية تتلاءم ضمنيا مع المقولة الشعبية: “اللهم العمش ولا العمى”! جريدة “العمق المغربي” حاولت من خلال هذه المتابعة أن ترصد واقع الإدارة المغربية وعلاقتها بالمواطن، عبر شهادات مواطنين وتحليلات متتبعين.

الإدارة .. شر لا بد منه

لا يمكنك أن تقف لوهلة قصيرة أمام أية إدارة عمومية، دون أن تسمع همهمة شيخ عجوز أو صراخ رجل أو شاب يافع، احتجاجا على تردي الخدمات التي تقدمها الإدارة التي قصدها، حدث ذلك عندما زارت جريدة “العمق المغربي” مكتب الحصول وتجديد البطائق الرمادية للسيارات ورخص السياقة الكائن خلف حديقة الطيور الشهيرة بأكادير.

رجل في الخمسينيات من عمره يصيح لوحده “أنا مغربي لما يتعاملون معي كأنني حشرة؟” منظر يثير الفضول، حتى لو لم تكن آبها بشيء ما. تقدمنا نحوه وسألناه، ما الأمر؟ نظر إلينا صامتا لبرهة، ثم أردف “أنا أيضا مغربي، حتى أنا لدي حقوق” بدا الأمر غامضا للوهلة الأولى، فالرجل غاضب ولا يريد أن يتكلم، لكن لسانه انفك قبل أن نسأله مرة أخرى. “لماذا يقومون بإرجاعي كل حين .. ثلاثة أيام وأنا آتي إلى هنا وأعود خاوي الوفاض”، كان الرجل يتحدث بسرعة كأنما يريد أن يقول كل شيء دفعة واحدة، استمهلناه قليلا فعلمنا أنه مغربي يعيش بين المغرب وفرنسا، جاء ليحصل على رخصة سياقة مغربية، لكن الموظفين هناك كانوا يخبرونه أنه تنقصه وثيقة ما فيعود إلى إحضارها، ثم يأتي في اليوم الموالي فيخبرونه أنه تنقصه وثيقة أخرى، حتى مرت عليه ثلاثة أيام دون ما حصوله على ما يريد.

قصة هذا الرجل ليست إلا غيض من فيض، من قصص الإهانة ومضيعة الوقت أمام الإدارات العمومية، فأن تدخل إلى إدارة مغربية ما، فهذا يعني أنك شبه مفقود وأن تخرج منها فإنك لا محالة مولود. قصص “التبهديل” التي يتعرض لها المواطن أمام الإدارات لا حصر لها وإن كانت متشابهة إلى حد كبير، فكلها تتمحور حول “سير حتى تجي”.

“لعربي” شاب متزوج حديثا يحكي لجريدة “العمق المغربي” أيضا قصته مع أحد المقاطعات الحضرية عندما أراد أن يقوم بتسجيل مولوده الأول في كناش الحالة المدنية، العربي البالغ من العمر 38 سنة يقول: “ظللت أزيد من شهر وأنا أتردد على تلك المقاطعة… كانوا كل مرة يطالبونني بوثيقة ما..كنت أعرف أنهم يريدون رشوة ولكن أقسمت أنهم لن يأخذوا درهما حتى لو كلفني ذلك أكثر من تلك الرشوة التي يريدون..ولكي لا أظهر أنني لا أريد أن أقدم تلك الرشوة كنت أتعامل معهم بسذاجة..وأظهر نفسي “نية” كما يقال”، العربي يضيف أن وجهه بات مألوفا بين موظفي تلك الإدارة..حتى ملوا منه وأعطوه ما يريد، واعترف أيضا أنه خسر أكثر من ثمن “القهيوة” التي دفعها غيره من الناس وقضوا حوائجهم بسرعة مذهلة.

الإدارة ورغم الوعود التي يطلقها المسؤولون بين الحين والآخر، حول إصلاحها، فإنها لم تشهد تغيرات كبيرة في تعاملها اليومي مع المواطن، فالزبونية والمحسوبية، لم تزل موجودة، ومظاهر الشطط في استعمال السلطة، لا تخطئها عين، أما الحديث عن البنيات التحتية فشبيه بحديث الجدات عن ثقب الأوزون لا فائدة منه بتاتا.

الإدارة والصحافة .. سوء الفهم الكبير

لا يمكن أن تجد أي صحفي مهما بلغت شهرته وذاع صيته إلا وله حكايات مع الإدارة، فعلاقة الإدارة بالصحافة ليست على ما يرام. فأبسط معلومة يمكن أن يحصل عليها الصحفي من إدارة ما تتعامل معها هذه الأخيرة وكأنها سر من أسرار الدولة الخطيرة.

محفوظ آيت صالح، صحافي بجريدة “المساء” بأكادير يرى في تصريح للجريدة أن: “العلاقة بين الصحفي والإدارة لازال يحكمها التوجس غير المبرر، فالمسؤول داخل الإدارة يتوجس من كل شخص يتقدم إليه ويعلن أنه صحفي، الأمر الذي لا نجد له أي مبرر رغم أن العديد من هؤلاء يعللون موقفهم بأن الساحة الإعلامية غير واضحة، وهناك أشباه صحفيين ممن يستغلون المعلومات من أجل أغراض شخصية، لكن لا نجد لهؤلاء عذرا أن يكونوا جاهلين للساحة الإعلامية وفاقدين للقدرة على التميز أو حتى القدرة على أن يطلب من المتقدم إليه البطاقة المهنية، لذلك أجد من الضرورة القول بأن زمن التكتم عن المعلومة العمومية قد ولى ولابد من الإدارة أن تفتح أبوابها وأن لا تدعي بأن التواصل ممركز في الرباط كما يقول بعض رؤساء المصالح للأسف الشديد، لأنه لا يعقل أن تكون الإدارة تمارس مهامها بجهة سوس ماسة درعة وعندما يطلب الصحفي معلومة ما يطلب منه أن يتصل بالرباط، أليس هذه قمة البيروقراطية كما هو متعارف عليها في أقوى البيروقراطيات التي شهدها التاريخ؟ يتساءل محفوظ في حديثه لجريدة “العمق المغربي”.

هذه العلاقة غير السوية بين الإدارة والصحفيين، يفسرها خالد الوزيعة، أستاذ باحث في التواصل المؤسساتي في تصريح لجريدة “العمق المغربي”، بعدم وجود علاقة مضبوطة وممنهجة بين الإدارة و الجسم الصحفي، معتبرا أن المسؤولية يتحملها كلا الطرفين، حيث يرى أن الإدارة ما زالت تتعامل مع المعلومة وكأنها سر من أسرار الدولة الخطيرة، وأن الإداري الذي يطلب منه الصحفي أو الإعلامي معلومة ما، يعتبر ذلك محفوفا بالمخاطر، أو أن ذلك يمكن أن يشكل خطرا على موقعه الإداري أو وظيفته بشكل عام، ربما يكون ذلك صحيحا فقد تابع الرأي العام كيف عوقب المتهم بتسريب معلومة حول تبادل العلاوات بين  وزير الخارجية الحالي صلاح الدين مزوار الوزير السابق للمالية، وبين الخزين العام للمملكة نور الدين بنسودة.

وبخصوص المسؤولية التي يمكن أن يتحملها الصحفي في عدم انفتاح الإدارات عليه، يرى الوزيعة أن بعض الصحفيين ينطلقون من منطق أعلى، فيه كثير من الإحساس بالقوة، وهو ما يفوت عليهم برأيه الحصول على المعلومة المبتغاة، بالإضافة إلى أن بعض الصحفيين لا يحسنون معرفة الشخص الذي يمكن أن يمدهم بالمعلومة التي يريدون.

سوء الفهم هذا، يرى الأستاذ أن السبيل لتجاوزه، يتطلب خلق مكاتب للاتصال حقيقية وغير شكلية، وهذه المكاتب يجب أن تكون مؤطرة بشكل مهني من لدن خرجي المعاهد الصحافية، ويتعاملون مع الصحفيين بشكل ممنهج، وذلك لضمان تواصل حقيقي بين الإدارة ورجال الإعلام كما ينص على ذلك الدستور الجديد.

القانون.. الحائط القصير

رغم وجود ترسانة من القوانين التي تنظم عمل الإدارة وتضبط علاقتها بالمواطن، إلا أن الملاحظ يرى أن القانون يبقى ذاك الحائط القصير الذي يسهل القفز عليه من كلا الجانبين، مواطنين وإداريين.

أمر يفسره الدكتور إبراهيم كومغار أستاذ القانون العام بكلية الحقوق جامعة ابن زهر أكادير، في تصريح لجريدة “العمق المغربي” بكون فكرة “الإدارة / المخزن” لازالت تسيطر على أذهان بعض المرتفقين مما يشعرهم بالعزلة في مواجهة جهاز إداري مكلف بمسؤوليات كبيرة ويكرس هذا الشعور الانغلاق والانكماش الذي طبع أداء الإدارة في العهود السابقة مما ولد أزمة تواصل حقيقية بين المواطن والإدارة وهذا ما يثير التخوف والانزعاج لدى بعض المرتفقين ويتولد لديهم الاعتقاد بصعوبة التخلص من الممارسات الإدارية التقليدية المطبوعة بالتسلط والإكراه.

ويرى أستاذ القانون العام أن تطوير آليات التواصل مع المرتفقين، أصبح ذا أهمية قصوى، وذلك لتكريس انفتاح الإدارة مع محيطها، وهذا يمر عبر تحسين ظروف استقبال المواطنين وحسن توجيههم داخل المصالح الإدارية لاسيما وأن انطباعاتهم غالبا ما تبقى رهينة بجودة الاستقبال المخصص لهم عند تعاملهم مع الإدارة، هذا إلى جانب اعتماد الشفافية الإدارية في علاقات الإدارة مع المرتفقين لتصبح الإدارة العمومية بالنسبة للمرتفق بمثابة “البيت الزجاجي” حيث تمارس الإدارة جميع أعمالها في إطار العلنية مع إقرار وتثبيت الحق في الحصول على المعلومات لفائدة المرتفقين وهو من الحقوق التي نص عليها الدستور الجديد في الفصل 27 منه وهو حق يتعين اعتماد التدابير القانونية اللازمة لتطبيقيه الفعلي.

كما يشدد الدكتور كومغار على أن إعادة الاعتبار للقيم الأخلاقية بالمرفق العام، لا يقل أهمية عما سبق ذكره، والتي حتما ستعمل على استرجاع ثقة المرتفقين في المرفق العام والتجاوب مع تطلعاتهم الجديدة بتدبير عمومي يلازم الشفافية والنجاعة مما سييسر من ناحية استفادة المرتفقين من الخدمات العامة ويعمل على انفتاح الإدارة على المجتمع واندماجها الفعلي في بيئتها الاجتماعية ومن ناحية أخرى هذا سينعكس إيجابا على الاستثمار والتنمية.

الإدارة والإرادة

من غرائب صدف اللغة العربية أن مصطلح “إدارة ” يتجانس بصورة غير تامة مع مصطلح “إرادة “، أي أن الكلمتين تتكونان من نفس الحروف ولا تؤديان نفس المعنى، والمقصود من ذكر هذه المقاربة اللغوية هو التأكيد على أن إصلاح الإدارة المغربية ظلت تنقصه طيلة هذه السنوات الإرادة والعزيمة الواضحتان من أجل إخراج المشاريع الإصلاحية المركونة على الرفوف إلى حيز الوجود.

لكن الأكثر وضوحا من كل هذا، أن الإدارة المغربية ظلت تعاني منذ الاستقلال وحتى الآن، من علل وأمراض حادة، سرعان ما حولتها الأطراف الرافضة للإصلاح إلى أمراض مزمنة يستعصي علاجها، مما بدا معه أن أي إصلاح شمولي وعقلاني أصبح شبه مستبعد تماما.

لكن رغم هذه الصورة القاتمة عن واقع الإدارة العمومية، يظل الأمل في الإصلاح مع الحراك الاجتماعي والسياسي الذي يعرفه المغرب كبيرا، بل يمكن القول إنه أصبح مطلبا ملحا، لأن واقع الإدارة من واقع المجتمع ككل، من هنا يرى عدد من المتتبعين أن إصلاح الإدارة مرتبط أساسا بشرطين هو الشق الاجتماعي والقانوني، فمن الناحية الاجتماعية، يشدد عبد الرحيم عنبي، أستاذ باحث في علم الاجتماع القروي والتنمية بجامعة ابن زهر في تصريح لجريدة “العمق المغربي”، أن المسؤولين عن إصلاح الإدارة المغربية يلزمهم الاهتمام بالجانب التأطيري سواء على مستوى أفراد المجتمع أو سواء على مستوى طاقم الإدارات الذين ينبغي أن يعاد تكوينهم بمعايير تتلاءم وحقوق الإنسان، ومفهوم الحكامة الجيدة.

بالإضافة إلى ضرورة إشراك وسائل الإعلام بجميع أشكالها في سبيل نشر ثقافة الإدارة واحترامها.

ومن الناحية القانونية، يرى الدكتور كومغار أنه وفي ظل تنامي الأنشطة الإدارية والتي أدت إلى تزايد النصوص القانونية والتنظيمية التي تحكم العمل الإداري، يتعين على الإدارة وضع قانونين وإجراءات سهلة التطبيق بعيدا عن التعقيد والبطء والروتين والبيروقراطية بمفهومها القدحي لاسيما وأن المرتفق غالبا ما يبذل جهدا كبيرا للحصول على الخدمة المنشودة بفعل تعقيد المساطر وهذا ما يؤثر على جودة الخدمة المرفقية، ومن هنا تظهر أهمية تقليص الشكليات الإدارية ومراجعة المساطر الإدارية.

كما أن ديوان المظالم في السابق ومؤسسة الوسيط في الوقت الحاضر تعد من الطرق التي يملكها المرتفق لرفع شكاياته وتظلماته والتي يمكن معالجتها عبر مؤسسة الوسيط التي تضطلع بدور مهم يصبو إلى تحقيق التصالح بين المواطن والإدارة وتفعيل المفهوم الجديد للسلطة وتكريس مبدأ سيادة القانون والإنصاف لاسيما في ظل الدستور الجديد الذي ينص على خضوع المرافق العامة لمعايير الجودة والشفافية والمحاسبة والمسؤولية مع خضوع أعوانها في ممارسة وظائفهم لمبادئ احترام القانون والحياد والشفافية والنزاهة والمصلحة العامة، من ناحية أخرى يقع على عاتق المرتفقين احترام كل الشروط القانونية والتنظيمية المتعلقة بإشباع الخدمات المقررة داخل المرافق العامة والتزامهم باستيفائها مع احترام العاملين بها وعدم القيام بعرقلة استمرارية أداء الخدمات المرفقية.