وجهة نظر

الخطاب الرسالي: خطاب الأزمة وأزمة الخطاب

إن الغرض الأساسي من كتابة هذا المقال، هو المساهمة في إغناء النقاش المرتبط بالصحوة الإسلامية، لأن الخطب جلل، وتكالبت الأمم على تشويه صورة الاسلام، فكل ما هو سلبي نسبوه إلىه، حتى أن بعض المحسوبين عليه يشوهون صورته من حيث لايشعرون، فمن يتأمل في تاريخنا الإسلامي وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجد الفوارق بيننا وبينهم، كما بين المغرب والمشرق، ليس لديهم ما لدينا من أصناف وأنواع التكنولوجيا المتطورة، ومع ذلك استطاعوا أن يقودوا الأمم ويصنعوا الحضارة الإسلامية الرائدة، وأما إذا ما تأملنا في واقع المسلمين اليوم نجد أزمة في الخطاب والمنهج، فما هي خصائص الخطاب الذي نريد؟ وماهو المنهج السليم في تبليغ الخطاب الرسالي الذي نبني به الفرد المسلم الذي يشيد العمران ويشهد على الإنسان؟

فحتى لا نتيه في هذا الموضوع الغني والمهم، يجدر أن أبدأ مناقشته انطلاقا من هذه الآيه الكريمة (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) الذاريات ٥٦، وعندما نريد أن نتكلم عن العبادة هنا من خلال الآية، يتعين علينا أن لا نحصرها في مستوى التمثل الشعبي التقليدي، حيث أضحت العبادة عند البعض مجرد أقوال وأفعال خالية من المقصد الرسالي، فأصبحنا نسمع بالشطحات الصوفية التى تنسب إلى الدين، والوحوش الدواعش الذين يقتلون الناس باسم الدين، إن العبادة المقصودة من الآية هي إخلاص العبودية لرب العالمين، وهي الامتثال التام لله عزوجل، فصلاتك أيها الإنسان لا تختزل في حركات وأقوال، إنما هي نهي عن الفحشاء والمنكر وصناعة للإنسان القوي الأمين، الحفيظ العليم، وهكذا كانت مهمة الرسل والأنبياء من أجل خدمة الإنسان حتى يحقق عبادة رب العباد وجلب الخير للبلاد.

وَمِمَّا لا شك فيك أن خطابنا الإسلامي المعاصر يعاني من أمراض عدة منها ما هو من عند أنفسنا، ويتمثل ذلك في وجود فئة، تلوي أعناق النصوص وتحملها ما لا تطيق، ويغيب عن اذهانهم الفهم الدقيق، وفئة أخرى تسمى الفئة المؤولة الذين لم تعجبهم معاني النصوص القطعية والصريحة، فأولوها حسب رأيهم فظلوا وأظلوا الناس عن الهدي القويم، وَمِمَّا ساهم في تراجع الخطاب الإسلامي انتشار الأمية الدينية، والاستلاب الثقافي الذي يستهدف قيمنا الحضارية، والأزمات الاقتصادية الطاحنة، وتفشي الفتن الظاهرة والباطنة، مما جعل المسلم المعاصر يهجر الينابيع الصافية للإسلام، ولم يبق له من صلة بحقائق الدين إلا الخطاب الرسمي في الحفلات، أوالأسبوعي كخطبة الجمعة، أوالموسمي كخطب العيد، وإن وجدت بعض الخطابات في الإعلام لا تعدوا أن تكون خطابات شاذة، أو تحريضية، أوسطحية في الفهم والمقصد، وهنا لا أعمم بطبيعة الحال، فهناك بعض الاستثناءات ممن لديهم خطاب رسالي معتدل، فخطابنا اليوم في حاجة ماسة إلى تجديد في الفهم، وإعادة إحياء منهج تلقي القرآن كما ذهب إلى ذلك الشيخ فريد الأنصاري رحمه الله تعالى، يقول في كتابه الفطرية: والمصطلح المفتاح لمنهج التعامل مع القرآن، في مدرسة (الفطرية)، وهو مصطلح (التلقي). لأن التربية القرآنية في مجالس القرآن لا تكون إلا بتلقي الرسالات الكامنة في الآيات! تلك الرسالات هي التي تتضمن حقائق الإيمان المقصودة بالتخلق والتحقق، في طريق الدعوة والسير إلى الله صلاحا وإصلاحا. ص١٢٢.

فإذا قمنا بتعداد حملة القرآن فإننا سنجدهم بالآلاف، وكذلك الوعاظ ورجال التربية والتعليم، لكن عندما نتأمل في خطابهم نجد بعظهم لا يتجاوز الجدران، يستمع إليه الناس بعقول لاهية وضمائر مستثرة، فكم من واحد يحفظ سورة الفاتحة؟ عدد لا حصر له من الحفاظ، لكن هل لهذه السورة تأثير في القلوب؟ الإشكال ليس في السورة، وإنما في الكيفية التي تلقوا بها السورة، فتخرج لدينا جيل من الحفاظ لا يفقهون من القرآن شيئا، مهمتهم قراءة القرآن على الموتى وفي المناسبات وفي افتتاح الدورات والندوات، ينقصنا كما أشرت سابقا في كلام الشيخ الأنصاري رحمة الله عَلَيْه منهج التلقي، بمعنى أن نصغي إلى الوحي وكأنه يتنزل علينا لنبصر حقائق الآيات وهي تخاطب فينا القلب والعقل، ونترجم معانيها في حياتنا بالأخلاق الراقية لنحقق مقصد الخلافة في الأرض، وندعوا بخطاب رسالي معتدل لكل الأمم.

لنتكلم قليلا عن الرعيل الأول كيف استطاع بخطابه الرسالي خلال الفترة المكية أن يحقق المقاصد الدعوية، فكانت الآيات القرآنية تتناسب مع طبيعة المجتمع المكي، سواء على مستوى البنية الإنسانية أو على مستوى الفطرة العقدية، التي نسجت خيوطها في عمق المجتمع الجاهلي، فخلال الفترة المكية نجد الخطاب الرسالي يعتمد مبدأ التدرج، لذلك لا يمكننا الحديث أثناء هذه الفترة عن منظومة التربية الإسلامية في جزئياتها التفصيلية، لأنها لم تكتمل صورتها إلا خلال الفترة المدنية، ففي الحقبة المكية ظهر الخطاب العقدي، الذي يؤصل لبناء الشخصية المسلمة التي لا تهتز أمام الأصنام المادية والمعنوية، شخصية قوية تستطيع أن تصمد بقول أحد أحد، رغم كل التعذيب والإغراءات، وامرأة مناضلة قوية استطاعت أن تبصق في وجه صناديد الكفر، ولم يقهرها التعذيب حتى ترجع عن التوحيد، ففي واقعنا اليوم يجب أن لا نفصل ماضينا عن حاضرنا، لأننا نعيش زمان الأصنام، وحالات التبعية للغرب، والاستلاب الحضاري، والتفسخ الاخلاقي، لهذا يتعين على الرساليين من هذه الأمة، أن ينقذوها من خطاب الأزمة بوسائل الإقناع الجديدة والمتنوعة، ورد الاعتبار للعلم والتعلم وتصحيح العقيدة المهزوزة، فعندما يتم التطاحن والاقتتال على كرة القدم فاعلم أنها صنم يعبد.

أما في الفترة المدنية صار الخطاب الدعوي خطابًا جماعيًّا يسعى إلى بناء الوحدة الإسلامية وتشكيل مفهوم الأمة أو مفهوم الدولة، لأن وراء نجاح كل فكر جديد لأي جماعة وحدة الدين واللغة والمقصد، فصار الأمر بالاتحاد وتوحيد الصف وعدم الخروج على الحاكم أمرا مهما لوحدة الأمة، كان هذا كله السمة التي تصبغ الخطاب المدني قرآنًا وسنة، فهنا قالوا انتهينا يا رسول الله وأهرقوا ما لديهم من الخمر، ففي الفترة المدنية ظهر ما يسمى في واقعنا المعاصر بالتنمية البشرية، فرسم الخطاب المدني للناس المنهج السليم لبناء شبكات العلاقات الاجتماعية، ووضع لهم قوانين تنظم أبواب العلاقات الزوجية آدابًا وأخلاقًا تضمن مبدأ البناء والتنمية،على أساس أن الأسرة هي اللبنة الأولى لنجاح المجتمع، كما أرشد إلى تربية الأولاد على المبادئ والقيم الإسلامية الرفيعة، والحث على العلم والتعلم، بل تعدى الأمر ذلك ليصل إلى تأصيل التربية على المواطنة الصادقة، وليس بمفهوم التعصب، من أجل بناء العمران البشري والحضاري لهذه الأمة التي تمتد خيوطها إلى عمق التاريخ، فظهر منهم من جعل حب رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوى من نفسه، ومنهم من تصدق بكل ماله من أجل بناء الدولة الإسلامية، إذن فسلامة الخطاب الرسالي عند الرعيل الأول جعل منهم قادة العالم، ولم يعرف لخطابهم أزمة لأنهم عاشوا زمن التلقي القرآني واستقبلوا الوحي بقلوب حية وعقول متوقدة.

وختاما لابد من التأكيد على أننا أمام تحدي كبير من أجل تصحيح مسارنا الفكري، والثقافي، والاقتصادي، والاجتماعي، والسياسي، لبناء الحضارة الرشيدة وإرجاع سكة القطار إلى الطريق الصحيح، ونعيش الفطرية بمناهجها كما ذكر ذلك الشيخ فريد الأنصاري رحمة الله عليه حيث قال: وأما أركانها فستة-هي مصطلحاتها المفتاحية- وهي:

١- الإخلاص مجاهدة
٢- الآخرة غاية
٣- القرآن مدرسة
٤- الربانية برنامجا
٥- العلم طريقة
٦- الحكمة صبغة.

وقال أيضا في ختام الحديث عن هذه الأركان: فتلك أصول دينية صحيحة، وقواعد تربوية مليحة، عدّها ياصاحبي عدّا، وعضّ عليها بنواجذك عضّا.

وأسأل الله تعالى التوفيق والسداد، ونجاح البلاد والعباد.