وجهة نظر

أنصـتــوا للطــــلاب.. !

تتصاعد وتائر الاحتجاجات الطلابية في أكثر من جامعة مغربية ضدّ عدد من الاختلالات البِنيوية والهيكلية والبيداغوجية والحقوقية والاجتماعية، منذ مطلع السنة الجامعية الجارية، إضافةً إلى وجود أنواع أخرى من الاحتجاج ذات الصِّلة برَفض الفساد الإداري والمالي والابتزاز الأخلاقي والتحرّش الجنسي بالطالبات والعُنف الفصائلي والتلاعُب بالنقط، وتفشّي مظاهِر الارتشاء من أجل القبول في عددٍ من أسلاك الماستر والدكتوراه وتزوير الشواهد، والإقصاء المُتعمّد للطلبة وممثليهم عن التسيير والتدبير الجامعي، وعدم إشراك المنظمات الفاعلية في الحركة الطلابية المغربية في تنظيم الخدمات الجامعية، الأمر الذي يراه الطلاب مَسًّا مُباشِـرا بمبدأ تكافؤ الفُرص وانحرافٌ واضح عن مضامين الوثيقة الدستورية التي أقرّت ربط المسؤولية بالمُحاسبة، وتفعيل الحكامة الجيّدة والشفافية والنزاهة في تدبير المرفق الجامعي. كما تتنامَى ظاهرة التكوين المُستمر في أكثر من مؤسسة جامعية مُشكِّلةً قَــلقا بالغا في أوساط المنظمات الطلابية والفصائل، وما إلى ذلك من إشكالات رَصَدتها فعاليات طلابية بشكل يومي، ويُتابع أطوارها الطلاب والطالبات، وتصدُر بشأنها تقارير رسمية (ثلاث تقارير للمجلس الأعلى للحسابات، تقرير المجلس الوطني لحقوق الإنسان..) وتقارير إعلامية وأخرى صادرة من هيئات ومنظمات المجتمع المدني، الأمر الذي يُنبأ بتدنّي مكانة الجامعة في المخيال الـــجَمْعِي للطلاب، والإساءة لسُمعة الجامعة ومصداقية شهاداتها وخرّيجيها، والضّرب في عُمق وظائفها الإستراتيجية تجاه المجتمع والوطن والدولة.

تُــحَتِّم متوالية الأشكال النضالية الــــمُنَظَّــمَة على امْـتداد خارطة الجامعات المغربية، والوقفات الاحتجاجية، والمُذكّرات المَطلبية، والعرائض والــــمُلتَمسات المتعدِّدة التي تُقدَّم بين الحين والآخــر لوسائل الإعلام المحلية والوطنية، وتُرفَع للفرق البرلمانية وللمؤسسات الدستورية ذات الصِّلة بالشؤون الجامعية، ولوزارة العليم العالي والبحث العِلمي وتكوين الأطُــر، على الجهات الوصية على قطاع التعليم العالي بالمغرب الاستجابة لنداءات الطلاب، وتَلَقّي المطالِب بصَدر رحب لأنها تمسُّ في العمق الجامعة المغربية وتهمّ ما لا يقل عن ثمان مائة ألف من ساكنة الوطن.

أنصتوا للطلاب.. صرخة ناضجة وعاقلة وقاصدة، لا تتغيّى الضجيج والاحتجاج حصراً، بقدر ما تبتغي تنبيه القائمين على الشأن الجامعي (وزارة، وأطرا، وأساتذة، وإداريين، ومنظمات وفصائل) إلى المهاوي التي تُحدق بالجامعات في حال لم يُستَجَب فيها للمطالب العاجلة، وعلى رأسها تتميم ديناميات الانخراط في زمن الإصلاح واحترام مبادئه وتقدير أولويته وعُمقه الدستوري والمُجتَمعي، وعدم التوقّف في زَمن “اقتراح المخطّطات” الرباعية والخُماسية. وإبداء حُسن النية في الإنصات العميق والصادق إلى دعواتِ ومطالب الفعاليات الشبابية والطلابية المُهتمّة والحريصة على المرفق الجامعي والشأن التعليمي والتربوي وسُبل النهوض بهما.

أنصتوا للطلاب.. ليست مُجرّد حملة وطنية ولا فذْلكة نضالية ولا عَنترة فصائلية ولا لَحظة احتجاجية في زمن عابر، إنها غَضبة طلابية صادقة وتعبير وطني مُخلِص وصَرخة عميقة ودفتر مطالِب راشد وفِعل إنتاجي ناهِض، تحمل رسائل إلى من يهمّهم أمر الجامعة من منظّمات ومكوّنات طلابية وأساتذة وإداريين وعمداء ورؤساء الجامعات وبرلمان وحكومة ووزارة وصية على القطاع.. فرسائل الصرخة الطلابية تتعدّد، منهــا:

– ضرورة التعجيل بمُتابعة الذين تورّطوا في سَنّ وتنزيل (دونما تقييم) للبرنامج الاستعجالي، وإقرار الجزاءات في حقّ مَن لم يُقدّموا تبريراً لصرف المبلغ المالي الضخم (12 مليار درهم) فيما عُــرف ب” سبعة عشر عقدا من أجل الجامعة المغربية”، والذي لم يعُد على الجامعات بشيءٍ مما بشّر به دعاةُ المخطط الاستعجالي ولا مَن نزّلَ المشروع ولا مَن عليهم طُبِّق. تفعيلاً للمقتضيات الدستورية التي نصّت على قضية ربط المسؤولية بالمُحاسَبة، خاصة في ورش استراتيجي يهمُّ حاضر ومُستقبل البلاد والعباد. وضرورة محاسبة المتورطين في قضايا الفساد الإداري والأخلاقي بالجامعة، وإقرار الافتحاص المالي الدوري للمؤسَّسات الجامعية من خلال مكتب وطني للمحاسبة مشهود له بالنزاهة والشفافية.

– إعادة النّــظر في جوانب كثيرة من الإصلاح البيداغوجي الجديد الذي تعــتوِره مجموعة من الاختلالات على مُستوى التنزيل أساسا، وإقرار أعلى درجات المتابعة للجهاز الإداري وللمسالك والشُّعب وعمادة الكليات من أجل تطبيق أمثَل لمضامين الإصلاح، وإيــفاد لِجان استطلاع للوقوف على الارتباكات الموضوعية والإرباكات المَقصودة التي يعرفها دفتر الضوابط البيداغوجية، ولتجاوز حالة ضعف الانسجام بين المؤسسات الجامعية في تطبيقه، ولتدارُك التراجُع غير المقبول وغير الـــمُسْتَساغُ لدى شرائح واسعة من الطلبة في مسألة النُقطة الموجِبة للرسوب، والحِرمان من التسجيل في وحدات دراسية إضافية، وخَرق المذكّرات الــــمُنَظِّمة لولوج أسلاك الدراسات العليا، ومَنْعُ عددٍ من الطلبة الحاصلين على شهادة الباكلوريا الحرة (2015م) من التسجيل في الكليات ذات الاستقطاب المفتوح، والاكتظاظ المُفرِط في عدد من الكليات والمدرّجات (تمّ تسجيل 215 ألفَ طالب جديد في الموسم الجامعي الحالي، بزيادةٍ تُقَدّر ب (12) في المائة) ناجِمٌ عن نـقص في البنيات التحتية وقِلّة أطُر التّدريس، إضافة إلى التّراجُع الحاصل في عدد ساعات التّـدريس، ممّا يؤثّـر على السَّـيْـر العادي للدُّروس ويُفقِد الدَّرس الجامعي شرعيته وقيمته المعرفية والمنهجية. والحقّ في الاستدراك، وعدم قَبول الشواهد الطّبية، وتصحيح مسار البرنامج، وتمكين الطلبة من الدّراسة في ظِل نظام بيداغوجي لا ظُــلْمَ ولا غِشّ فيه ولا احتيال.

– الإنصات لــمُقترحات الطلاب وهيئاتهم النقابية – المدنية في مجال تنمية وتطوير البحث العلمي المُساهم في الإقلاع الحضاري، فعلى الرغم من أهمية الإجراءات التي اعتمدتها الحكومة والوزارة الوصية في هذا الميدان؛ إلاّ أنها تظل في تقديرنا جزئية وترقيعية ومُــفْــتَــقِــدَةٌ لرؤية شامِلة تُحَسِّن واقع البحث العلمي بالمغرب. حيث يعرِف مجال البحث العِلمي (وبخاصة مجال العلوم الإنسانية والشرعية والقانونية) شُحّاً في الدعم الحكومي وقِلّةً في تنويع مصادر تمويله، كما أنّ ضُعف البنيات التحتية (مختبرات البحث، مكتبات، وسائط معاصرة،)، وتَــخَبُّط الباحثين في التعقيدات الإدارية، وتَــــــعَــقُّــد مِسْـطَرة التمويل والصرف ومِسْطرة إبرام العقود والصَّفقات المتعلقة بالبحث العلمي، وغياب إقرار المراقبة البَـعْدِية لصَرف الاعتمادات المخصَّـصة للبحوث العلمية، وضُعف الاهتمام بالعمل البحثي (التأسيسي) في أسلاك الإجازة، على مُستوى الإشراف والتّوجيه والمُتابعة والدعم والتّصحيح، حيثُ وَصَلت عملية الإشراف على بحوث الإجازة ببعض الجامعات من طرف أستاذ واحد واثنين على ما يربو عن (60) بحثا في السنة، الأمــر الذي يُهدّد سلامة ونزاهة وموضوعية الإشراف العِلمي، ويدفع بالطلبة في اتّجاه اعتبار بحث التخرُّج مجرّد إجراء شكلي ليس إلّا !

– لَفتُ الانتباه إلى مخاطِر تنامي مظاهر عَسْـكرة الجامعات من خلال تَــعْلِية أسوار بعض المؤسسات والأحياء الجامعية بشكل يُثير الغرابة ويُحوّل مؤسسات العلم والمعرفة إلى ثكنات، إضافة إلى تواجد حُرّاس الأمن الخاص بعدد من الإدارات الجامعية، الأمر الذي يَزيد من حِدّة التّوَتّرات الــــمُفْـضِية إلى العنف ويَــحْرِمُ الطلبة من حقِّهم في ولوج الإدارة الجامعية لقضاء أغراضهم الإدارية بشكل سلِس؛ ويُناقِض روح وحُرمة الفضاء الجامعي. كما تستنكِر الأصوات الطلابية المتعالِية من هنا وهناك الاستغلال المُريب للمذكّرة الثنائية الــمُوَقَّعَة بين وزارة الداخلية ووزارة التعليم العالي والبحث العِلمي وتكوين الأطر، وتُنبِّه الجهات الرسمية إلى اعتماد مُقاربة غير المقاربة الأمنية الضيقة في التعاطي مع النضالات والاحتجاجات والأنشطة الطلابية، وتوجيه المسؤولين الجامعيين إلى اعتماد المقاربة الحقوقية ونهج الحوار سبيلاً وأفقا وخيارا لحلّ المشاكِل وللتفاوض بشأن المطالِب، ودَعْم الفِـعل الطُّلابي الجاد الذي يُـعتبر حصانةً ضدَّ مظاهر التّــطرف والتَّــشدّد والهــــدْر الجامعي والعنف بمختلف أشكاله، والسَّـعي لتعزيز دور الجامعة في إنتاج قيم الاحترام والأمان والسِّلم والعِلم، وتثبيت ميثاق للقيم والأخلاق في الحرم الجامعي.

– المُطالبة بإجراء إصلاح تشاركي شامل ومُـندَمِج، ديمقراطيُّ المُنطَلق، وطني التوجّه، نهضوي المآل، يُنقِذ تعليمنا وأجيالنا وينتشلهما من أزمنة الكُساح والــتّهجين والتّرقيع والتّــطويع. إصلاح يستحضر أهمية الحوار الوطني المُشتَرَك بين جميع المتدخّلين في قطاع التعليم العالي، ويُجري تمرينا نقديا للمحاولات الإصلاحية السابقة قَصد الاعتبار بالتراكُم الحاصل وتجاوُز الأعطاب المكرورة ومُحاسبة من عرّضوا تعليم البلاد للهدم من حيثُ قَصَدوا أم لم يقصِدوا. إصلاح جامعي ينسجم مع طور التحوّل الذي يعيشه المُجتمع المغربي، ويكــبُر عن الوقوع في شِراك الامتصاص الناعم والعابر للغضب الطلابي والاحتجاج الفصائلي، ويحرص على تثمين المُقترحات الصاعدة من بِنيات الفِعل الطلابي الراشد، وينفــتح على الخــبرات العالمية، وينطلق بنا نحو العالمية؛ فقد مللنا التّبعية والترتيب الأخير في سُلّم الجامعات والدول الرائدة علميا وتقنيا وتربويا !

أنصتوا للطــلاب.. نريد جامعة العلم والسِّلم والمعرفة.. نُريد جامعات بلا فساد، بلا إرْهـــاب !
فأنصــتوا للطلاب.. اليوم وغدا وبَـعد غد.
والله أعلم.