وجهة نظر

المؤتمر الثالث لـ”البام”.. هل تصحح الدولة خطأها؟

يعقد حزب الأصالة والمعاصرة مؤتمره الوطني الثالث أيام 22 و23 و24 يناير 2016، وسط ارتباك بين عموم أعضائه، يبدو أعمق مما يمكن أن يتصوره المتتبعون لمسار هذا الحزب، ارتباك داخلي عبرت عنه سجالات احتضنتها المنابر الإعلامية بين عدد من قياداته، إما على شكل حوارات أو مقالات رأي أو تصريحات صحافية.

على المستوى الظاهر لا شيء جديد في هذا الحزب يمكن أن يُغري بتتبع تفاصيل مؤتمره الوطني الثالث، حيث يصر على السطو على ما يمكن أن نعتبره مِلكا جماعيا للمغاربة، والمتمثل في تقرير الخمسينية وتوصيات هيأة الإنصاف والمصالحة، وإعادة صياغة أبرز ما فيهما في إطار وثيقته المرجعية المنشورة للعموم، والمليئة بالحشو والإطناب، والخالية من مواقف جادة وخلفيات إيديولوجية واضحة، تسهّل عملية التموقع داخل المشهد الحزبي، مع استمراره في اللعب بالمفاهيم والكلمات بلغة متعالية، تعكس الرغبة القديمة لدى الحزب في تقديم نفسه بديلا متجاوِزا للأحزاب الوطنية، ومتوهّما التفاعل مع مستجدات المرحلة التي يعتقد مهندسو وصانعو هذا الحزب أن المغرب دخلها بعد إصدار تقرير الخمسينية المشهور.

عموما لن يستطيع حزب الأصالة والمعاصرة، النجاح في تمويه المواطنين والمتتبعين بنشر “الوثيقة المرجعية الفكرية والسياسية” وكذا “نظاميه الأساسي والداخلي”، ليقول بعد المؤتمر أنها نتاج تداول ونقاش عموميين، وأنها تعكس توجها معينا في المجتمع، خاصة الفئات التي تتعامل مع الأنترنيت والتي سيوهم الحزب أنها تفاعلت فعلا مع ورقته الإنشائية.

لكن ثمة مؤشرات تُظهر أن شيئا ما يُطبخ بعيدا عن الأنظار، وبعيدا أيضا عن صخب النقاش حول هوية الحزب وخسارته المدوية في تحقيق جل الأهداف التي خرج إلى الوجود من أجلها، لا المتعلقة بإعادة هيكلة وعقلنة المشهد الحزبي، ولا المتعلقة بإيقاف مد حزب العدالة والتنمية، ولا المرتبطة بخدمة المشروع المجتمعي الحداثي الذي يقوده الملك، حسب تعبير قيادات الحزب خلال مرحلة ما بعد مؤتمر 2009، بل على العكس، الحزب كلما تقدمت به الأيام إلا تعرض لهزائم متوالية تساهم في صمت في تفكك مكوناته، على وقْع التقدم السياسي والانتخابي لغريمه حزب العدالة والتنمية، وأيضا على وقع اليقظة والصحوة التي تجتاح شيئا فشيئا القوى الحزبية الوطنية التاريخية، المتمثلة أساسا في حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وكذلك الجرأة المقدرة لحزب التقدم والاشتراكية في إعلان رفضه لحسابات الأصالة والمعاصرة، دون أن ننسى الضربات القاسية التي تلقاها إبان الحراك الاجتماعي لسنة 2011.

من سوء حظ هذا الحزب، أن أشياء كثيرة تغيرت في البلاد وفي محيطها، رفعت الحجاب عن مناوراته التدليسية، وفضحت جزء من استراتيجيته، وأنهت جانبا من الأطروحة التي أطرت عملية ولادته المشوهة، والتي ارتكزت بالأساس على الاشتغال على نخب حزبية تعوض النخب القائمة، التي اعتُبرت حينها عاجزة عن مواكبة وتنزيل برامج “المشروع المجتمعي الحداثي”، وقادرة على ضمان التأطير السياسي المطلوب للمجتمع، وفي الوقت ذاته ضمان الأغلبية البرلمانية الكفيلة بإضفاء الشرعية على السياسات العمومية وعلى القرارات المتخذة بنَفَس سلطوي تحكمي، لا مجال فيه لمرجعية المجتمع وطموحاته وتطلعاته، في استنساخ بئيس لتجربة حزب الدولة في مصر حسني مبارك، وحزب الدولة في تونس بنعلي.

سقط بنعلي في تونس وسقط حسني مبارك في مصر، وسقطت معهما الأطروحة غير المعلنة لحزب الأصالة والمعاصرة في المغرب، ليُفتح المجال لسيناريوهات أخرى تنقذ الموقف، وتصلح ما فسد في العلاقة بين السلطة والمواطنين، بين الدولة والمجتمع، وبطبيعة الحال عملية الإنقاذ هذه أحدثت رجة في صفوف الأطراف التي تتبنى حزب الأصالة والمعاصرة، داخل الدولة، لكنها لم تكن كافية لإعلانه حزبا لقيطا يبحث عن أب شرعي، ربما لما في ذلك من مخاطر مستقبلية على الدولة برمتها، و يمكن أن يكون هذا الحزب مصدرا لها، خاصة مع حجم العلاقات الداخلية والخارجية التي راكمها المكون الرئيسي من مكوناته، واستفادته خلال مراحل سابقة من هامش التحرك بدون صفة، وبدون مراعاة لقوانين ولا أعراف، ونسجه تحالفات مدرة للمال لتغطية مصاريف ما يقوم به من أنشطة.

بعد كل هذه السنوات العجاف للدولة مع حزب الأصالة والمعاصرة، وجني الأطراف الداعمة له لخيبات الأمل المتتالية، لا يبدو أنه سيستمر حلاّ ولا واجهة للعودة من جديد إلى النموذج المصري البائد أو المثال التونسي المنقرض، ولا هو قادر بعد كل ما حدث طيلة هذه السنوات، على أن يكون دعامة لنموذج آخر قريب من النموذج المصري، قائم على قيادة الحاكم للتنمية الاقتصادية وتسريع وتيرة التحديث المرجوة، بالنظر إلى المستجدات الدستورية التي تؤطر نظريا على الأقل الصلاحيات والاختصاصات بين المؤسسات.

إذن ليس أمام العقلاء في الدولة إلا حل واحد وهو التخلص التدريجي من خطأ النسخة الأولى للأصالة والمعاصرة، وإن بأسلوب مَرِن، يضمن من جهة بقاءه حزبا كباقي الأحزاب التي خرجت من رحم الإدارة، يؤدي بين الفينة والأخرى أدوارا محددة، ومن جهة أخرى يُؤمّن عدم سيطرة مكون “تيار الريف” المتدثر بعباءة الإيديولوجية اليسارية، على الحزب كله، لما في ذلك من مغامرة غير محسوبة العواقب ولا متوقعة النتائج، وقد يكون هؤلاء العقلاء فعلا سائرون في هذا الاتجاه، وهو ما يُفسر إسناد رئاسة اللجنة التحضيرية للمؤتمر الوطني الثالث للحزب لمحمد الشيخ بيد الله، وكذا العودة الاضطرارية لحسن بن عدي أول أمين عام للحزب، والذي دعا صراحة هو وغيره من القيادات التي امتلكت جرأة الاختلاف عن طموحات “المتياسرين” داخل البام، لبقاء مصطفى الباكوري الأمين العام الحالي على رأس الحزب، لقطع الطريق على الياس العماري غير المُأتَمن على تنفيذ خطة التخلص التدريجي من “البّام”، بعد نجاح عملية تحييد حكيم بنشماش بـ”فرضه” رئيسا لمجلس المستشارين، وعزيز بنعزوز بإهدائه رئاسة فريق الحزب بالمجلس ذاته بعد تطويع النقابة التي وصل وحيدا باسمها للمجلس.

بكلمة، صلاحية حزب الأصالة والمعاصرة -إنْ كانت له صلاحية من الأصل-انتهت، والسياق السياسي الذي أنتجه تغير، وأصبح بقوة حركة التاريخ من الماضي الذي لا يعود، ومغرب اليوم بات نموذجا يتقدم ديمقراطيا بدون فكرة الحزب المهيمن، بل بفكرة تقوية الأحزاب المنبثقة من الشعب، وبالابتعاد عن التدخل في قراراتها، وليس أمامه إلا أن يواصل المشوار لئلا يرتد على أعقابه فيخسر كل ما بناه، ويضيع كل ما جناه.