وجهة نظر

المشروع الفرنكفوني بالمغرب (2/3)

المشروع الفرنكفوني في المغرب.. من القوة الثالثة إلى حزب التكنوقراط

ـــــــــــ

– الصراع بين المشروع الوطني و مشروع القوة الثالثة

ظهر الصراع بين المشروع الوطني الذي يمثله حزب الاستقلال، و بين المشروع الاستعماري الذي تمثله “القوة الثالثة” خلال مفاوضات إيكس ليبان، حيث تمكنت سلطات الحماية من فرض ما كانت تسميه ب(الوطنيين المعتدلين)، و ذلك لتسهيل مهمة تمرير رؤيتها لمرحلة ما بعد الاستقلال. و قد استمر هذا الصراع خلال تشكيل أول حكومة في عهد الاستقلال، و التي كان فيها دور القيادة للقوة الثالثة، بينما كان دور حزب الاستقلال كممثل للمشروع الوطني هامشيا، و قد وصل هذا الصراع أوجه بعد إسقاط حكومة عبد الله إبراهيم التي كانت تجسد المشروع الوطني التحرري، و تعويضها بنخبة سياسية و عسكرية جديدة مناوئة لقيم الحركة الوطنية، من أبرزها أحمد رضا كديرة صاحب مشروع (الفيديك) و محمد أفقير الجنرال الدموي الذي وظف سلطة الجيش للإجهاز على قيادة وقواعد الحركة الوطنية.

لكن هذا التمرد على المشروع الوطني، في الحقيقة، يعتبر امتدادا لمشروع متكامل تم تهييئه مع أول حكومة بعد الاستقلال مع وزير الداخلية (الحسن اليوسي) في حكومة مبارك البكاي، حيث انخرط بشكل صريح في مواجهة المشروع الوطني، الأمر الذي جعله يدخل في تنسيق مع ضباط الحماية من أجل ملاحقة و التضييق على مناضلي الحركة الوطنية، و هذا ما جعله يظهر كمتزعم لتيار “قبلي” مناهض لحزب الاستقلال حسب الأستاذ الجابري. فقد كان يراهن، في مواجهته للمشروع الوطني، على قبائل الأطلس المتوسط التي توجه إليها في حملته ضد حزب الاستقلال. و قد دخل في علاقات مشبوهة مع بقايا موظفي الاستعمار للقيام بحملته الدعائية ضد الوطنيين، و لعل ما يؤكد هذه العلاقة المشبوهة، حسب الجابري، هو علاقة اليوسي بالضباط الفرنسيين في محاكمة عدي أو بيهي.

محمد عابد الجابري – في غمار السياسة – ص: 187-188
لقد كان اليوسي، كممثل للقوة الثالثة، على وعي تام بالتناقض القائم بين مشروعين مختلفين، في مغرب ما بعد الاستقلال، من جهة هناك مشروع الحركة الوطنية الذي تأسس على تكريس مقومات الوطنية المغربية، بداية بالنضال من أجل تقوية دور المؤسسة الملكية كضامن لوحدة و استقلال المغرب ( نذكر هنا بالدور المشرف للحركة الوطنية عند نفي الملك محمد الخامس حيث ربطت استقلال المغرب بعودة محمد الخامس، و كذلك الدور الذي لعبته في إجهاض المشروع الاستعماري المجسد في ابن عرفة) و مرورا بالنضال من أجل تكريس مقومات الهوية المغربية، في بعدها العربي الإسلامي.

و من جهة أخرى هناك مشروع القوة الثالثة، الذي يعد امتدادا للمشروع الاستعماري، فبالإضافة إلى علاقته المشبوهة مع الاستعمار لتحجيم دور المؤسسة الملكة في أفق إضعافها لفسح المجال أمام خدام المشروع الاستعماري (نذكر هنا بالدور الخطير الذي لعبته القوة الثالثة في تهميش دور الملك محمد الخامس و تتويج سلطان الحماية ابن عرفة)، بالإضافة إلى ذلك كان توجهها نحو توظيف فلسفة الظهير البربري للفصل في سكان المغرب بين البربر (البوادي/النخبة البربرية) و العرب (المدن/ النخبة الحضرية/الحركة الوطنية)، وهذا ما جسده وزير داخلية حكومة القوة الثالثة بشكل صريح في توجهه إلى الأطلس المتوسط لإعلان حربه ضد المشروع الوطني في شراكة مع بقايا موظفي الاستعمار الفرنسي.

ما يبدو هو أن المستهدف الرئيسي من تأسيس القوة الثالثة، هو مشروع الشراكة بين المؤسسة الملكية و بين الحركة الوطنية، فمنذ البوادر الأولى لتأسيس ” القوة الثالثة” في المغرب كان التوجه واضحا للحسم مع قيم الحركة الوطنية في بعدها التحرري، اقتصاديا وسياسيا و قيميا، و لذلك فقد كان التوجه إلى الخزان البشري في البوادي المغربية لتشكيل قوة انتخابية قادرة على إزاحة قادة ومناضلي الحركة الوطنية، الذين ركزوا حركتهم النضالية على الفضاء الحضري، باعتبارها حركة فكرية قائمة على استعادة الوعي الفكري والسياسي بالذات الجمعية المغربية تهييئا لمواجهة المشروع الاستعماري، و هذا التوجه لا يمكن أن يكون خارج الفضاء الحضري بما يتيحه من مجالات الحوار و النقاش الفكري و السياسي.

لقد وعى قادة القوة الثالثة بأن مواجهة المشروع الوطني لا يمكنها أن تتم إلا من خارج أسوار المدن، و لذلك توجهوا إلى البوادي، و أشاعوا أن المشروع الوطني ذو طابع حضري يقوم على تهميش دور البادية المغربية لذلك يجب مواجهته، و هذا ما أتاح لهم تهييئ فضاء اجتماعي قادر على التفاعل مع المشروع المناوئ لمبادئ الوطنية المغربية، ليصلوا، في الأخير، إلى مرحلة احتكار الشأن الوطني بدعم واضح من موظفي سلطات الاستعمار الفرنسي. و هكذا تم الإجهاز على المشروع الوطني من خلال النجاح في الإجهاز على حامليه من قادة و مناضلي الحركة الوطنية، و أتيحت الفرصة، في المقابل، للمشروع الاستعماري يصول و يجول بلا رقيب، في الاقتصاد و السياسة و الثقافة.

و قد كان الإجهاز على البصيص الأخير من أمل المشروع الوطني التحرري بعد إسقاط حكومة عبد الله إبراهيم التي جسدت آخر قلاع مقاومة مشروع القوة الثالثة، فقد تم تجنيد العناصر الليبرالية في جوقة هذه القوة، و على رأسهم أحمد رضا كديرة، و سلوك مسلسل منهجي من القمع البوليسي لتفكيك و كسر شوكة إحدى القوى الاساسية في الاتحاد الوطني، قوة المقاومة كرجال و رصيد و إشعاع.